تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[هل فكرنا بمعنى القبلة في الصلاة؟]

ـ[عزام عز الدين]ــــــــ[03 Oct 2006, 01:23 ص]ـ

من كتاب "الفردوس المستعار و الفردوس المستعاد"- د. أحمد خيري العمري دار الفكر

.. سأقف عند مشهد واحد، ربما ليس فيه الكثير من الحركة، ربما ليس فيه الكثير من الأحداث .. لكن فيه الكثير من العمق وحافل بالإيحاءات والدلالات ..

مشهد واحد، يتكرر مرتين، مرّة مع إبراهيم، ومرة مع محمد ..

تتغير أدوات المشهد، تتغير عناصره، لكن شيئاً أساسياً في قلب المشهد ينبض نفس النبض ..

يدق نفس الدقة ..

ويجعل المشهدين يتكاملان مع بعضهما البعض ..

* * *

المشهد الأول، إبراهيم، وتلك الليلة التي خرج منها بإتجاه الفجر- الذي أشرق فيها العقل في داخله ..

تلك الليلة .. التي أفلت فيها كل المعبودات، ولم يبق سوى الذي أوجدها- خارجاً عن كل تجسيم، مجرداً عن كل تشكيل،منزهاً عن أي إطار يحدده في زمان أو مكان ..

تلك الليلة، تقلب فيها وجه إبراهيم، تقلب فيها عقله، يبحث عن ذلك الشيء الذي لا مفر من البحث عنه ..

وعندما بزغ العقل في داخله- عبر، ومعه الإنسانية كلها، نحو الوجه الآخر من القمر- ذلك الوجه الذي لا يمكن لحوت الخرافة والجهل أن يبتلعه .. تلك الليلة، وذلك المشهد، ووجه إبراهيم يتقلب بين الآفلين، الى أن يصل الى الضفة حيث لا مكان للآفلين. تلك الضفة التي وجّه إليها- أخيراً- وجهته ..

(إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً .. وما أنا من المشركين .. ) الأنعام 79.

*************************

المشهد الأول، لكنه يعاد مرة أخرى .. في عصر آخر ..

هذه المرة معه،محمد، عليه افضل صلاة ..

ليس المهم أن تكون ليلة تقلب فيها وجهه .. ولا نهار إحتار فيه فكره .. لكن المهم أن وجهه تقلب ..

نبض قلبه بحثاً عن جهة يتوجه إليها .. ، تحرك عقله من أجل مكان يحتوي أفكاره ..

هل كانت المسألة مسألة جهةفحسب؟ .. أم كانت الجهة رمزاً لما هو أكثر من ذلك؟ ..

لا ندري إلا إنه كان يبحث. لا ندري إلا إنه كان يدور بوجهه، بحثاً عن جهة يتوجه إليها ..

وإن كان ذلك يؤرقه ..

ولعلها كانت ليلة أيضاً- تركت بصمتها أيضاً على مجرى التاريخ ..

.. (قد نرى تقلب وجهك في السماء .. ) البقرة 144.

************************

بين الليلتين، بين التقلبين، بين الوجهين الباحثين، أكثر من ربط، أكثر من مجرد خيط، بينهما تكامل، وتوائم ..

الليلة الأولى، تقلب فيها إبراهيم من أجل أن يجد – بنفسه، قبل أن يأتيه الوحي- ذلك الذي فطر، والذي خلق .. والذي ترك الأدلة على وجوده في كل مكان ..

************

تلك الليلة تقلب فيها إبراهيم من أجل أن يجد من هو أهل لأن يعبد .. من أجل أن يجد من يستحق أنه تتوجه له .. الوجوه والأنظار .. والأيدي .. و العقول ..

كانت الحاجة للعبادة واضحة عند كل الناس وكل المجتمعات، المشكلة كانت في أنها تتوجه الى المكان الخطأ ..

تلك الليلة قرر العقل الإنساني أن يحسم الأمر .. ويبحث عمّن خلقه .. لا يتوجه إلا له ..

********************

وفي الليلة الأخرى، تقلب وجهه عليه الصلاة و السلام بين الجهات، لم يكن يبحث عمن خلقه- فالأمر حسم منذ فترة طويلة، لكنه كان يبحث، بين الجهات، بين الخيارات، في مفترق الطرق ذاك الذي كان فيه، عن جهة تحقق له القرار الذي تحقق بعد الليلة الأولى .. الجهة التي كان يبحث عنها محمد، ويقلب وجهه بحثاً عنها، كانت الجهة التي ستحقق ما وجده إبراهيم- ستنزلها على أرض الواقع، تحولها من فكرة هائمة في خيال العباد والزهاد- الى مجتمع حقيقي، يحتويها وتحتويه، يسندها وتسنده ..

في مفترق الطرق ذاك، وقف محمد يقلب وجهه بين الجهات، كل جهة تمثل تجربة حضارية مختلفة ومتميزة، كل جهة تمثل فشلاً ما، أو نجاحاً ما، إخفاقاً ما، أو إنتصاراً ما ..

كل جهة من كل تلك الجهات التي تقلب فيها وجه محمد، كانت تلك خصائصها الحضارية الثابتة- المميزة لها- الناتجة عنها، سلباً أو إيجاباً ..

كانت تلك الجهات، تملك تجربتها التي أختلط فيها الصواب والخطأ، التوحيد بالوثنية، والمبادئ بالمصلحة ..

كل تلك التجارب كانت تمثل تجارب حضارية راسخة، قد تكون تحمل معها بذرة إنهيارها وسقوطها، لكنها كانت موجودة على أرض الواقع .. نموذجاً جاهزاً للتطبيق والإستعادة ..

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير