وأهل السنة يعترفون أن التفسير يعتمد النقل بالأساس، والتأويل يعتمد الإستدلال والإستنباط أساسا، ومن ثم راحوا يوضحون منهجهم في التأويل حتى لا يلتبس بمفهوم التأويل عند الفرق الضالة التي تلتجىء إليه انتصارا للرأي والمذهب والهوى.
يقول الزركشي في كتابه "البرهان": "وكل لفظ احتمل معنيين فصاعدا فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الإجتهاد فيه، وعلى العلماء اعتماد الشواهد والدلائل، وليس لهم أن يعتمدوا مجرد رأيهم فيه على ما تقدم بيانه، وكل لفظ احتمل معنيين فهو قسمان:
أحدهما: أن يكون أحدهما أظهر من الآخر، فيجب الحمل على الظاهر إلا أن يقوم دليل على أن المراد هو الخفي دون الجلي فيحمل عليه.
الثاني: أن يكونا جليين والإستعمال فيهما حقيقة. وهذا على ضربين:
أحدهما حقيقة لغوية، وفي الآخر حقيقة حقيقة شرعية. فالشرعية أولى إلا أن تدل قرينته على إرادة اللغوية نحو قوله تعالى: {وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم}. وكذلك إذا دار بين اللغوية والعرفية، فالعرفية أولى لطريانها على اللغة، ولو دار بين الشرعية والعرفية، فالشرعية أولى لأن الشرع ألزم ".
وهذا النص الهام يبين لنا عنصرين هامين من عناصر المنهج السني:
أولهما: أن أهل السنة لا يتنكرون لحقيقة قائمة كما هو الشأن بالنسبة للتأويل، فرغم أنهم يعلمون خطورته البالغة على عقيدة المسلم، وعلى كيان الدولة المسلمة ككل - إذ هو المدخل الذي تنفذ منه كل الدعاوي الباطلة والمذاهب الهدامة- رغم كل ذلك نجدهم يقررون أهميته، ويعترفون به لا كأمر واقع فحسب، بل كأداة منهجية يستدعى استخدامها النص القرآني، إذ هناك كثير من المواقف التي تتطلب من المفسر أن يستعمل فيها الإستدلال والإستنباط للوقوف على المعنى الحقيقي للآية أو السورة التي يروم تفسيرها.
الثاني: إن قبولهم التأويل واعترافهم به لا يعني التسليم بكل تأويل، بل وضعوا المنهج القويم للتأويل المرتضى، وأسسوه على قاعدة منهجية وعلمية وموضوعية، بحيث يكون النص هو الذي يفرض الأداة المنهجية التي ينبغي أن نتعامل معه بها، وألا نسقط عليه أدوات منهجية غريبة عنه تفضي بنا ـ في النهاية ـ إلى مفارقات صارخة، وإلى نتائج غريبة عن طبيعة الإسلام العقدية والشرعية.
فما ينبغي أن يعرف من موقف أهل السنة في قضية التأويل إجمالا أنهم لم يرفضوه بالكلية، وإنما رفضوا المعنى الأخير، الذي قال به متأخروا المتكلمين والفلاسفة والأصوليين وغيرهم، حيث يصرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به، وقد رفضوه لأنه استحدث في الأمة لأغراض غير نزيهة وغير علمية، ذلك أنه المدخل الذي تلج منه البدع والضلالات بعد أن تلبس ثوب الشريعة الإسلامية، وتصبغ بصبغتها في الظاهر، لتجنب نفسها المعارضة الشعبية التي كانت ستواجهها حتما إن هي أسفرت عن باطلها وضلالها.
في الوقت نفسه نجد علماء أهل السنة يقررون المعنى القرآني للتأويل، وهو رد الشيء المخبر به إلى حقيقته وآماله، وينصون على أن ذلك مما استأثر الله تعالى بعلمه، ومن ثم لم يجوزوا الخوض فيه موضحين أن المنهج السليم هو إثبات المعنى الذي جاء به القرآن الكريم، والقول به من غير زيادة أو نقصان.
كما أنهم قالوا بمعنى التأويل الذي ورد عن السلف وهو ما يفيد التفسير والبيان من جهة، وتنفيذ الأمر الرباني - أمرا كان أو نهيا - من جهة أخرى، وهذا مما أفاضوا الكلام فيه.