تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وكقوله تعالى: {فإن كان له إخوة فلأمه السدس}، فالظاهر اشتراط ثلاثة من الإخوة، لكن قام الدليل من خارج على أن المراد اثنان، لأنهما يحجبانها عن الثلث إلى السدس".

وفي هذه الدراسة اللغوية المعجمية، يحذر الزركشي من أن يفلت زمام الأمر من يد المفسر، فيبتدع منهجا لا يوحى به النص، مما يؤدي إلى مفارقات في النتائج والاستنباطات، ومن ثم يتعين عليه مراعاة مطابقة التفسير للنص المفسر، بحيث يقع الحافر على الحافر من غير زيادة أو نقصان في المبنى والمعنى، لأن ذلك قمين بالإزراء بكلام الله والبعد به عن مقصده وهدفه، بل قد يأتي بعكس النتائج والأهداف التي يتوخاها النص القرآني. يقول الزركشي: " ويجب أن يتحرى في التفسير مطابقة المفسر، وأن يتحرز في ذلك من نقص المفسر عما يحتاج إليه من إيضاح المعنى المفسر، أو أن يكون في ذلك المعنى زيادة لا تليق بالغرض، أو أن يكون في المفسر زيغ عن المعنى المفسر وعدول عن طريقته، حتى يكون غير مناسب له ولو من بعض أنحائه، بل يجتهد في أن يكون وفقه من جميع الأنحاء، وعليه بمراعاة الوضع الحقيقي والمجازي، ومراعاة التأليف، وأن يوافي بين المفردات وتلميح الوقائع، فعند ذلك تتفجر له ينابيع الفوائد".

ثم ينتقل الزركشي إلى الحديث عن دلالة السياق وإبراز أهميتها في فهم وإدراك معنى آي الذكر الحكيم، بل يعتبرها من أعظم الأدوات المنهجية التي يتعين على المفسر أن يتسلح بها وهو يخوض غمار عملية من أصعب وأخطر العمليات التفسيرية، ذلك أنها تتعلق بتفسير كلام رب العالمين. وهذا التفسير الخطأ فيه ليس سهلا أو هينا، وذلك لما قد تترتب عنه من أحكام وأمور وقضايا تتعلق بحياة المسلم الاجتماعية والسياسية، والاقتصادية الدينية. فدلالة السياق إذن هي التي "ترشد إلى تبين المجمل، والقطع بعدم احتمال غير المراد، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وتنوع الدلالة، وهو من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم، فمن أهمله غلط في نظيره، وغالط في مناظراته. وانظر إلى قوله تعالى: {ذق إنك أنت العزيز الكريم}، كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير".

ويطلب الزركشي من مفسر القرآن الكريم أن يكون حاضر البديهة، شديد الملاحظة متوقد الإحساس، وذلك حتى يتمكن من التفاعل معه تفاعلا حقيقيا، وإيجابيا يفضي إلى رفع الحجاب عن كل الحقيقة أو بعضها. ومن مظاهر حضور البديهة "ملاحظة النقل عن المعنى الأصلي، وذلك أنه قد يستعار الشيء لمشابهة، ثم يستعار من المشابة لمشابه المشابة، ويتباعد عن المسمى الحقيقي بدرجات، فيذهب عن الذهن الجهة المسوغة لنقله من الأول إلى الآخر، وطريق معرفة ذلك بالتدريج، كقوله تعالى: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين}. وذلك أن أصل "دون" للمكان الذي هو أنزل من مكان غيره، ومنه الشيء الدون للحقير، ثم استعير للتفاوت في الأحوال والرتب، فقيل زيد دون عمرو في العلم والشرف، ثم اتسع فيه فاستعير في كل ما يتجاوز حدا إلى حد، وتخطى حكما إلى حكم آخر، كما في الآية المذكورة، والتقدير لا تتجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين".

ويختم الزركشي حديثه عن المنهج السني المقترح لتفسير الذكر الحكيم بالنص على أن معرفة أسباب النزول أداة منهجية عظيمة، تمكن الباحث من الوقوف على الظروف والملابسات المواكبة لنزول القرآن الكريم، مما يجعله يعيش في بيئة القرآن ساعة نزوله، وكل ذلك يساهم في إذكاء التفاعل مع الخطاب القرآني، بحيث تتفجر معانيه، وتتفتق غرره، وتتكف درره. وفي ذلك يقول:" معرفة النزول، وهو من أعظم المعين على فهم المعنى، وسبق منه في أول الكتاب جملة، وكانت الصحابة والسلف يعتمدونه، وكان عروة بن الزبير قد فهم من قوله تعالى: {فلا جناح عليه أن يطوف بهما} أن السعي ليس بركن، فردت عليه عائشة ذلك وقالت: لو كان كما قلت، لقال: " فلا جناح عليه ألا يطوف بهما " وثبت أنه إنما أتى بهذه الصيغة، لأنه كان وقع فزع في قلوب طائفة من الناس كانوا يطوفون قبل ذلك بين الصفا والمروة للأصنام. فلما جاء الإسلام كرهوا الفعل الذي كانوا يشركون به، فرفع الله ذلك الجناح من قلوبهم، وأمرهم بالطواف. رواه البخاري في صحيحه، فثبت أنها نزلت ردا على ما كان يمتنع من السعي".

والملاحظ أن تناول الإمام الزركشي لقضية المنهج السني المقترح في تفسير القرآن الكريم يتسم بالإحاطة والشمول، بحيث يلم بدراسة القضايا من كل أطرافها. فيبدأ بالطرح النظري، ثم يعقبه بضرب الأمثال، فيكتمل بناء النموذج المقترح نظريا وتطبيقيا. وأما الراغب الأصفهاني فيضع أيدينا على منهج في التأويل يمكن أن يجنبنا الاختلاف والفرقة في تأويل النصوص المشكلة، وذلك حيث يقول: " والوجوه التي يعتبر فيها تحقيق أمثالها أن ينظر فإن كان ما ورد فيه ذلك أمرا أو نهيا عقليا فزع في كشفه إلى الأدلة المعقلية، فقد حث تعالى على ذلك في قوله تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب}. وإن كان أمرا شرعيا فزع في كشفه إلى آية محكمة أو سنة مبينة. وإن كان من الأخبار الاعتقادية فزع إلى الحجج العقلية. وإن كان من الاعتبارية فزع إلى الأخبار الصحيحة المشروحة في القصص".

ومن هنا نستخلص أن من أول مهمات المفسر ـ خاصة فيما يتعلق بالنصوص المشكلة ـ دراسة النصوص دراسة داخلية نصية تمكنه من تحديد طبيعتها، لأن ذلك كفيل بإرشادنا إلى المنهج الذي يتعين علينا أن ندرسها به، وبذلك يكون تفسيرنا منهجيا وعلميا وموضوعيا في الوقت نفسه.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير