تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[نموذج من تفسير الامام عبد الحميد بن باديس]

ـ[ابو مريم الجزائري]ــــــــ[27 May 2007, 08:43 م]ـ

السلام عليكم و رحمة الله

من ابرز الآثار التي تركها الإمام عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تفسيره للقرآن الكريم الذي امتد على فترة زمنية تقدر بربع قرن بالجامع الأخضر– و هو من أكبر المساجد بقسنطينة عاصمة الشرق الجزائري -، وقد كتاب مجالس معدودة من تلك الدروس، على شكل فواتح لأعداد مجلته "الشهاب" بعنوان "مجالس التذكير".

وإليكم نموذجا من تفسيره للآية 36 من سورة الإسراء:

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} (الإسراء: 36).

العلم الصحيح، والخلق المتين، هما الأصلان اللذان ينبني عليهما كمال الإنسان، وبهما يضطلع بأعباء ما تضمنته الآيات المتقدمة، من أصول التكليف؛ فهما أعظم مما تقدمهما من حيث توقفه عليهما. فجيء بهما ليكون الأسلوب من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى. ولما كان العلم أساس الأخلاق قدمت آيته على آيتها تقديم الأصل على الفرع.

آية العلم:

(القفو): اتباع الأثر، تقول قفوته أقفوه، إذا اتبعت أثره. المتبع لأثر شخص موال في سيره لناحية قفاه؛ فهو يتبعه دون علم بوجهة ذهابه، ولا نهاية سيره. فالقفو: اتباع عن غير علم، فهو أخص من مطلق الاتباع، ولذلك اختيرت مادته هنا. ولكونه اتباعا بغير علم، جاء في كلام العرب بمعنى قول الباطل قال جرير:

وطَالَ حذاري خِيفة البين وأُحْدُوثة من كاشحٍ متقوفِ

(والعلم) إدراك جازم مطابق للواقع عن بينة، سواء أكانت تلك البينة حساً ومشاهدة، أو كانت برهاناً عقلياً: كدلالة الأثر على المؤثر، والصنعة على الصانع. فإذا لم تبلغ البينة بالإدراك رتبة الجزم فهو ظن. هذا هو الأصل. ويطلق العلم أيضا على ما يكاد يقارب الجزم ويضعف فيه احتمال النقيض جداً. كما قال تعالى عن إخوة يوسف عليه السلام: {وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين} (يوسف: 83) فسمى القرآن إدراكهم لما شاهدوا علماً؛ لأنه إدراك كاد يبلغ الجزم لانبنائه على ظاهر الحال، وإن كان ثم احتمال خلافه في الباطن، لأنه احتمال ضعيف بالنسبة لما شاهدوه.

(والسمع): القوة التي تدرك بها الأصوات بآلة الأذن. (والبصر): القوة التي تدرك بها الأشخاص والألوان بآلة العين. وقدم السمع على البصر، لأن به إدراك العلوم وتعلم النطق، فلا يقرأ ولا يكتب إلا من كان ذا سمع وقتاً من حياته.

والفؤاد: القلب، والمراد به هنا العقل من حيث اعتقاده لشيء ما. وإطلاق لفظ الفؤاد والقلب على العقل مجاز مشهور. وكان تفيد ثبوت خبرها لاسمها، وكونها على صورة الماشي لا يدل على انقضاء ذلك الارتباط. ومثل هذا التركيب يفيد في استعمال استحقاق الاسم للخير؛ فالجوارح مستحقة للسؤال، ويكون ذلك بالفعل يوم القيامة. (والمسؤول): الموجّه إليه السؤال ليجيب.

(وأولئك): إشارة إلى هذه الثلاثة. وضمير كان عائد على كل، وضمير (عنه) عائد على ما، وضمير مسؤولا عائد على ما عاد عليه ضمير كان. والتقدير: كل واحد من هذه الثلاثة: السمع، والبصر، والفؤاد، كان مسؤولاً عما ليس لك به علم.

العقل ميزة الإنسان وأداة علمه:

يمتاز الحيوان عن الجماد بالإدراك، ويمتاز الإنسان عن سائر الحيوان بالعقل، وعقله هو القوة الروحية التي يكون بها التفكير. وتفكيره هو نظره في معلوماته التي أدرك حقائقها، وأدرك نسب بعضها لبعض إيجاباً وسلباً، وارتباط بعضها ببعض نفياً وثوتاً. وترتيب تلك المعلومات بمقتضى ذلك على صورة مخصوصة، ليتوصل بها إلى إدراك أمر مجهول.

فالتفكير اكتشاف المجهولات من طريق المعلومات، والمفكر مكتشف ما دام مفكراً. ولما امتاز الإنسان عن سائر الحيوان بالعقل والتفكير – امتاز عنه بالتنقل والتحول في أطوار حياته، ونظم معيشته بمكتشفاته ومستنبطاته: فمن المشي على الأقدام، إلى التحليق في الجو، مثلا. وبقي سائر الحيوان على الحال التي خُلق عليها دون أي انتقال. وبقدر ما تكثر معلومات الإنسان، ويصح إدراكه لحقائقها ولنسبها، ويستقيم تنظيمه لها – تكثر اكتشافاته واستنباطاته في عالمي المحسوس والمعقول، وقسمي العلوم والآداب.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير