تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[العدول في حروف المعاني مظهر من مظاهر الإعجاز البياني في القرآن الكريم "5"]

ـ[د عبدالله الهتاري]ــــــــ[26 May 2007, 03:47 م]ـ

ثالثاً: العدول في حروف النفي

نجد أن التعبير القرآني قد خالف في الاستعمال بين أداتي النفي بـ (ما) و (إِنْ)، فعدل في الأسلوب عن (ما) إلى (إنْ) كثيراً.

وقد ذكر النحاة أنَّ (إنْ) (): حرف نفي يدخل على الجملة الفعلية والاسمية، نحو قوله تعالى: ?وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ? [التوبة: 107]. أي: ما أردنا إلا الحسنى. وقال مجاهد (ت 103هـ): "كل شيء في القرآن (إنْ) فهو إنكار" ().

وقال الراغب (ت 502هـ) في (إنْ) هذه (): "وأكثر ما يجيء يتعقبه (إلا) نحو:

?إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنّاً? [الجاثية: 32]. و: ?إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ? [المدثر: 25]. و: ?إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ? [هود: 54] ".

وكذلك الحال مع حرف النفي (ما) فهو يدخل على الجملة الفعلية والاسمية. ويذكر النحاة أن (إنْ) بمنزلة (ما) في نفي الحال ().

ويقول برجشتراسر (): (إنْ) تكاد تطابق (ما) في وظيفتها، وأكثر وقوعها قبل (إلا) للجناس بينهما نحو ? إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ? [يوسف: 40] ".

ويذكر أحمد ماهر البقري في أساليب النفي في القرآن أنه (): "لا نكاد نجد فرقاً بين (إنْ) و (ما) إذ هما لنفي ما في الحال غالباً".

والحقيقة أن التعبير القرآني قد فرق بينهما في الاستعمال من خلال ما نلحظه من المخالفة بينهما، والعدول عن حرف إلى آخر منهما.

وقد تتبع فاضل السامرائي المخالفة بين الأداتين في الاستعمال القرآني فوجد أن النفي بـ (إن) آكد من (ما) (): "يدل على ذلك اقترانها الكثير بـ (إلا)، وهذا ما يعطيها قوة وتأكيداً، فإن في القصر قوة"، وذلك نحو قوله تعالى: ? إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا? [إبراهيم: 10].

وقوله تعالى: ?وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ? [الإسراء: 44].

ونضيف إلى ما قاله السامرائي أن (ما) قد تأتي مقترنة بـ (إلا)، ولكن هذا ليس هو الغالب في استعمالها، في حين أن (إن) النافية غالب في استعمالها اقترانها بـ (إلا)، والقصر بـ (إلا) يرد للتأكيد، وذلك يوحي بقوتها في التأكيد أكثر من (ما).

ومن خلال السياقات القرآنية التي وردت فيها (إن) النافية، نجد أن النفي بها آكد وأقوى، وهذا يفسر لنا دلالة المخالفة في السياقات القرآنية التي ورد فيها العدول عن (ما) إلى (إن)، نحو قوله تعالى على لسان النسوة: ?مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ? [يوسف،31].

فقد جاء النفي ابتداء بـ (ما) فقال: "ما هذا بشراً" ثم عدل عنه إلى النفي بـ (إن) فقال: "إن هذا إلا ملك كريم"، ولم يطرد السياق على نمط واحد من النفي فيكون "ما هذا بشراً ما هذا إلا ملك كريم"؛ وذلك لأن نفي البشرية عنه أهون من إثبات وصف الملائكية له، فأتى بـ (إنْ) فيما هو آكد، إمعاناً في تأكيد صفة الملائكية له في الحسن والهيئة ونفي ما سواها عنه.

إذ القصر بـ (إلا) يفيد دلالتي النفي والإثبات معاً ()، فقد أثبت له صفة الملائكية، ونفى عنه ما دونها.

و منه قوله تعالى: ?قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ? [يس: 15].

فأتى بحرف النفي (ما) ابتداء فقال: "ما أنتم إلا بشر .. وما أنزل الرحمن"، ثم عدل بعد ذلك إلى (إن) فقال: "إن أنتم إلا تكذبون" ولو جرى السياق على نسق واحد لكان "وما أنتم إلا تكذبون".

ويرجع هذا إلى أن "نفي الثاني أقوى فجاء به بـ (إنْ) فإن الأول إثبات البشرية، والثاني الكذب، وهم بشر لا شك في ذلك فجاء به بما، والثّاني إثبات الكذب للرسل -عليهم السلام- وإنكار أن يكونوا صادقين وهو يحتاج إلى توكيد أكثر فجاء به بـ (إنْ) " ().

وهذا الأمر يطرد في التعبير القرآني، فحيثما وجد النفي بـ (إن) فهو آكد من النفي بـ (ما).

ومنه ذلك أيضاً قوله تعالى: ? وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ? [الجاثية: 24].

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير