[أدب المفسر: سيد قطب نموذجا. إهداء لعبد الرحمن الشهري]
ـ[أحمد بزوي الضاوي]ــــــــ[15 Apr 2007, 06:37 م]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
الإخوة الأفاضل رواد هذا الموقع المبارك: السلام عليكم و رحمة الله وبركاته.
(قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (البقرة:32)
عناية سيد قطب بلغة النص القرآني.
يبدو أثر الواقع الأدبي الحديث واضحا في عناية سيد قطب بلغة النص القرآني، ودراسة أسلوبه وإبراز الجانب التعبيري والبلاغي للألفاظ والتراكيب اللغوية، ذلك أنه ركز على جوانب فنية وجمالية لم يتنبه إليها أو بالأحرى لم يركز عليها القدماء عند تفسيرهم للقرآن الكريم، أو دراسته دراسة لغوية وبلاغية. من ذلك تركيزه على الصورة والمشاهد، ورسم الشخصيات، وتجسيد المواقف، والظلال والحركة والتكرار، والتناسق بين المدلولات والتعابير، والاهتمام الكبير بدراسة الإيقاع، وتحليل بنية الألفاظ التركيبية والدلالية، والكشف عن العلاقة الموجودة بينهما، وغيرها من الأدوات و الوسائل التعبيرية التي اكتشفها الأدباء والنقاد، وفلاسفة الجمال في العصر الحديث، والتي اطلع عليها سيد قطب دون شك بوصفه أديبا وشاعرا وناقدا.
و التركيز على هذه الجوانب الجمالية والأسلوبية في دراسة النص القرآني يعتبر من أبرز سمات النزعة الأدبية في تفسير «في ظلال القرآن"، فضلا عن أنه قد وسع من دائرة الإعجاز اللغوي للقرآن الكريم، والذي كان يدور حول موضوعات ومحاور قد استهلكت، كدراسة التشبيه والاستعارة والكناية، والمجاز والمحسنات البديعية واللفظية والمعنوية والخروج بالنص القرآني إلى رحابة الدراسات الفنية والجمالية والأسلوبية الحديثة التي يتفاعل معها المسلم المعاصر، كما أنه يبرز كثيرا من الخصائص التركيبية والدلالية و الأسلوبية للخطاب القرآني، التي لم تتمكن الدراسات اللغوية أو البلاغية القديمة من إبرازها بالطريقة نفسها، وبالدقة والعمق الذي تستطيعه الدراسات الفنية والجمالية والأسلوبية الحديثة.
وسنحاول في هذا المبحث أن نبين مع ضرب بعض الأمثلة من "الظلال" عناية سيد قطب الفائقة بدراسة لغة وأسلوب الخطاب القرآني.
1 - التعبير بالصورة والمشهد:
عني سيد قطب في دراسته للغة الخطاب القرآني بإبراز طريقة القرآن الكريم في التعبير، والتي تتمثل أساسا في التصوير «فهو يعبر بالصورة المحسة المتخيلة عن المعنى الذهني والحالة النفسية، وعن الحادث المحسوس، والمشهد المنظور، وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية، ثم يرقى بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة أو الحركة المتجددة فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج الإنساني شاخص حي، وإذا الطبيعة البشرية مجسمة مرئية. فأما الحوادث والمشاهد والقصص والمناظر فيردها شاخصة حاضرة فيها الحياة، وفيها الحركة، فإذا أضاف إليها الحوار فقد استوت لها كل عناصر التخييل، فما يكاد يبدأ العرض حتى يحيل المستمعين نظارة، وحتى ينقلهم نقلا إلى مسرح الحوادث الأول الذي وقعت فيه أو ستقع، حيث تتوالى المناظر وتتجدد الحركات وينسى المستمع أن هذا الكلام يتلى، ومثل يضرب، ويتخيل أنه منظر يعرض، وحادث يقع. فهذه شخوص تروح على المسرح وتغدو، وهذه سمات الانفعال بشتى الوجدانات المنبعثة من الموقف المتساوقة مع الحوادث، وهذه كلمات تتحرك بها الألسنة فتنم عن الأحاسيس المضمرة. إنها الحياة هنا وليست حكاية الحياة» (1).
وهناك أمثلة كثيرة عن تعبير القرآن الكريم بالصورة والمشهد، منها:
أ- ما جاء في تفسيره لقوله تعالى {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، قالوا فيم كنتم، قالوا: كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا} (2)، فالتعبير القرآني «يعبر في صورة، ويصور في مشهد حي نابض بالحركة والحوار ... إن القرآن يعالج نفوسا بشرية، ويهدف إلى استجاشة عناصر الخير والمروءة والعزة فيها، وإلى مطاردة عوامل الضعف والشح والحرص والثقلة، لذلك يرسم هذا المشهد. إنه يصور حقيقة ولكنه يستخدم هذه الحقيقة في موضعها أحسن استخدام في علاج النفس البشرية، ومشهد الاحتضار بذاته مشهد ترتجف له النفس البشرية، وتتحفز لتصور ما فيه. وإظهار الملائكة في المشهد يزيد النفس ارتجافا وتحفزا وحساسية» (3).
ب- ويقول في تفسيره لوقله تعالى في سورة الكهف {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا} (4): «والبحر أوسع وأغزر ما يعرفه البشر، والبشر يكتبون بالمداد كل ما يكتبون، وكل ما يسجلون به علمهم الذي يعتقدون أنه غزير، فالسياق يعرض لهم البحر بسعته وغزارته في صورة مداد يكتبون به كلمات الله الدالة على علمه فإذا البحر ينفذ وكلمات الله لا تنفذ، ثم إذا هو يمدهم ببحر آخر مثله ثم إذا البحر الآخر ينفذ كذلك وكلمات الله تنتظر المداد، وبهذا التصوير المحسوس والحركة المجسمة يقرب إلى التصور البشري المحدود معنى غير المحدود، ونسبة المحدود إليه مهما عظم واتسع. والمعنى الكلي المجرد يظل حائرا في التصور البشري، ومائعا حتى يتمثل في صورة محسوسة، ومهما أوتي العقل البشري من القدرة على التجريد فإنه يظل إلى حاجة إلى تمثل المعنى المجرد في صور وأشكال وخصائص ونماذج، ذلك شأنه مع المعاني المجردة التي تمثل المحدود فكيف بغير المحدود؟ لذلك يضرب القرآن الأمثال للناس ويقرب إلى حسهم معانيه الكبرى بوضعها في صور ومشاهد ومحسوسات ذات مقومات وخصائص وأشكال على مثال هذا المثال» (1).
للموضوع بقية.
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.
¥