تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[العدول في حروف المعاني مظهر من مظاهر الإعجاز البياني في القرآن الكريم "4"]

ـ[د عبدالله الهتاري]ــــــــ[16 May 2007, 12:47 م]ـ

3 - العدول عن (الفاء) إلى (ثم) والعكس

من ذلك قوله تعالى: ?قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهَ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ?

[هود: 53 - 55].

فعطف طلب الكيد بـ (الفاء) وعدم الإنظار بـ (ثم). وجاء على العكس من ذلك في تحدي الرسول (صلى الله عليه وسلم) للمشركين، وذلك في قوله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ? [الأعراف: 191 - 195]. فعطف طلب الكيد بـ (ثم) وعدم الإنظار بـ (الفاء).

والذي يبدو -والله اعلم- أن سياق سورة الأعراف فيه تسفيه لهذه الأصنام التي اتخذوها أنداداً من دون الله -عزوجل-، ثم ارتفعت نبرة التحدي في الخطاب، فوجه الله -عزوجل- الأمر لنبيه (صلى الله عليه وسلم) أن يتحدَّى المشركين بأن يدعو هؤلاء الشركاء ويتضامنوا معهم في الكيد له "وأمهلهم من الزمن ما يتيح لهم فرصة الاستعداد والاحتشاد له، فعطف الأمر بالكيد على الأمر بدعوة شركائهم بحرف المهلة؛ إمعاناً في الاستهانة بالشركاء، وعدم مبالاة بكيدهم، وجاء عطف عدم الإنظار بـ (الفاء) إغراقاً في التحدي والاستهانة حين لا يطلب لنفسه نفس المهلة للرد على كيدهم" (). فطلب معاجلتهم بالقضاء عليه، والإيقاع به، وفي ذلك من الاحتقار لهم والتهكم بهم ما فيه.

أما في سورة هود فقد ادعى قوم هود أن آلهتهم المزعومة قد مست هود بسوء وأنها تضر وتنفع، فعندئذ باشرهم بالتحدي السريع دون مهلة "لأنهم ما داموا يثبتون لآلهتهم هذه القدرة على إنزال الضُّرِّبه فليس بحاجة إلى أن يطلب منهم دعوتها، وإمهالهم لحشد قواهم، فهم قد بدأو حربه بالفعل، فطلب منهم التعجيل بالكيد له والقضاء عليه، فأدخل (الفاء) على الأمر بالكيد لتدل على طلب المبادرة به" ().

ثم عدل بعد ذلك إلى (ثم) ليعطي لهم ولآلهتهم المزعومة مهلة طويلة من الزمن حتى يبلغوا في الكيد غايته. وقد أثبتت الياء في (فيكيدوني) "لتطيل زمن النطق بالكلمة مع طول النطق بـ (ثم)، فيتسق طول النطق في التعبير مع طول الزمن في الإمهال" ().

وثم إنهم ذكروا أن آلهتهم اعترته بسوء، فكانت نبرة التحدي لديه أشد وآكد فتحدى الجميع بقوله: "فكيدوني جميعاً"، ثم أظهر نفسه في التحدي وذلك بإثبات الياء زيادة في التحدي لهم والظهور" ().

ومنه قوله تعالى: ?إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ? [المدثر: 18 - 25].

فنجد هذا السياق القرآني العجيب قد مضى في اطراد في تكرار (ثم)، فقال: "ثم قتل .. ثم نظر .. ثم عبس .. ثم أدبر .. فقال"، ثم عدل عن (ثم) إلى (الفاء) فجأة في قوله بعد ذلك: (فقال) إن هذا إلا سحر يؤثر"، ولم يطرد السياق فيكون: "ثم قال إن هذا إلا سحر يؤثر).

وعندما نمعن النظر في هذا السياق نجد أن حرف التراخي (ثم) قد صور لنا أبلغ تصوير حالة الصراع النفسي الذي عاشه الوليد بن المغيرة الذي نزلت في شأنه هذه الآيات، وكيف أنه أجال التفكير في شأن القرآن وأعوزته الحيلة بعد مهلة من الزمن وتريث فلم يجد ما يعيب به القرآن، ثم بعد ذلك كله سارع إلى إلقاء كلمة مفتراة في وصف هذا القرآن العظيم بقوله: "إن هذا إلا سحر يؤثر". فدلت (الفاء) في قوله: "فقال إن هذا .. " على أن هذا القول قد صدر منه دون إعمال نظر أو فكر في المقول، فلم يقل ما قاله عن قناعة ويقين، وكأنها كلمة ألقاها على عجل ووّلى

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير