[العدول في حروف المعاني مظهر من مظاهر الإعجاز البياني في القرآن الكريم "6"]
ـ[د عبدالله الهتاري]ــــــــ[07 Jun 2007, 05:18 ص]ـ
[ولكن هل النفي بـ (لم) و (ما) يتماثلان، فيكون النفي في (لم أذهب) هو معنى النفي (ما ذهبت)؟ وأن جملة (لم أذهب) هي في المعنى (ما ذهبت) لتحول الفعل المضارع إلى الماضي مع (لم)، أم أن هناك فرقاً دلالياً بينهما؟
ويرى الباحث أن (لم) و (ما) ليستا متماثلتين تماماً في النفي، بل بينهما فرق دقيق، "فليس من حكمة العربية أن تجعل أداتين مختلفتين متشابهتين تماماً في المعنى، ولا بد أن يكون لكل واحد منهما خصوصية ليست في الأخرى" ().
"والعربية تميل إلى التفريق والتخصيص" ().
وقد ذهب بعض علماء اللغة المعاصرين إلى التفريق بينهما؛ فيرى إبراهيم أنيس (): "أن (لم) منحوتة من (لا) و"ما"، ويترتب على ذلك التأصيل أنها آكد من النفي بأداة بسيطة مثل (ما)، أو على الأقل "لا يمكن أن يصبح النفي بـ (لم) أضعف من النفي بـ (ما) "".
وكذلك قال براجشتراسر عن "لم" (): "إنها ربما ركبت من "لا" و"ما" الزائدة".
ويرى شيخنا الدكتور سمير استيتية (): "أن النفي بـ (لم) الداخلة على الفعل المضارع تفيد استغراق النفي لكل جزيئات الزمن الماضي، في حين أن النفي بـ (ما) يفيد نفي الماضي بعمومه؛ لذلك كان نفيها آكد من (ما).
وهو ما نجده واضحاً في الاستعمال القرآني من ذلك قوله تعالى: ?فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ? [البقرة: 259].
"فجاء بـ (لم) وذلك لأن تغير الشراب والطعام يحصل تدريجياً ويستمر، وليس دفعة واحدة، فجاء بـ (لم) للدلالة على أنه لم يحصل شيء من ذلك، ولو جاء بـ (ما) وقال (ما تسنه) لأفاد نفي التسنَّه وهو التغير بصورته النهائية التامة" ().
ونجد هذا المعنى في تأكيد النفي بـ (لم) واضحاً أيضاً في قول العذراء: ?وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا? [مريم: 20].
فهو إمعان في النفي من أن تكون قد تلبست بهذا الوصف في أي مرحلة من مراحل حياتها؛ فضلاً من أن يكون هذا وصفاً معروفاً لها.
في حين كان خطاب قومها لها: ?وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا? [مريم: 28]. فجاء النفي منهم بـ (ما)، فلم يقولوا: (ولم تك أمك بغياً)؛ لأنه ليس بمقدورهم الإطلاع على كل أزمنة حياة أمها حتى يصدر النفي منهم بصيغة التجدد والحدوث، وإنما جاء النفي منهم بصيغة العموم، فقالوا: (وما كانت أمك بغياً)، فهذا هو المعروف والمشهور للناس من حال أمها بصفة العموم؛ لذا كان النفي منها أبلغ وأدق وأنفى للتهمة؛ لكونها أدرى بكل لحظات حياتها وتصرفاتها ().
ومما سبق يتضح أن النفي بـ (لم) للفعل المضارع يفيد نفي أدنى درجات حدوث الفعل في زمنه الماضي، فالفعل في حدوثه يمر بمراحل متفاوتة في التحقق والحصول، ونفيه بـ (لم) يقع على أولى فترات تشكله وحدوثه، كما أنه يفيد استغراق النفي للزمن الماضي بكل جزئياته، في حين أن النفي بـ (ما) يفيد نفي الحدث في الماضي صورته النهائية وبعمومه ().
وقد خلص الباحث بعد ذلك من بحثه إلى ان العدول في حروف المعاني هو من أبرز الظواهر الأسلوبية في التعبير القرآني، وأكثرها وروداً، ويمثل مظهراً من مظاهر الإعجاز البياني في القرآن الكريم.
وأن السياق له دور بارز ومهم في تحديد الدلالة المناسبة لهذا العدول.
وأنه من خلال تحليل سياقات العدول المتعددة في النص القرآني، نخلص إلى أن كل عدول في المبنى يصاحبه عدول في المعنى قطعاً.
وتوصل الباحث من خلال تحليل مواطن العدول في حروف المعاني أن كل حرف يختص بدلالة لا يشاركه فيها غيره، والسياق هو الذي يحدد الدلالة المرادة؛ وبناء على ذلك لا تناوب في حروف المعاني.
وفي الختام كان المقصد من تناول هذا العدول في القرآن الكريم هو التحليل والتعليل لصوره وأنماطه، لا الوقوف عند ظاهر التركيب، وهذا جهدٌ لا أزعم فيه أنني قد استوفيت كل جزئيات هذا العدول في القرآن الكريم، فالنص القرآني أكبر من أن يحيط به دارس، لكني أفدت منه ما يحقق لي هدف هذا البحث.
قائمة المصادر والمراجع
1) الإتقان في علوم القرآن، جلال الدين السيوطي (ت 911هـ)، المكتبة الثقافية، بيروت، 1973م
2) أساليب النفي في القرآن، د. أحمد ماهر البقري، دار المعارف، مصر، ط2، 1984م.
3) البرهان في علوم القرآن، بدر الدين الزركشي (ت 794هـ)، ت: محمد
¥