ويخوض بها المخاوف والأخطار فإذا هي أمن وسلام. ويعبر بدونها المناهج والمسالك فإذا هي مهلكة وبوار!
ولا ضيق مع رحمة الله. إنما الضيق في إمساكها دون سواه. لا ضيق ولو كان صاحبها في غياهب السجن، أو في جحيم العذاب أو في شعاب الهلاك. ولا وسعة مع إمساكها ولو تقلب الإنسان في أعطاف النعيم، وفي مراتع الرخاء. فمن داخل النفس برحمة الله تتفجَّر ينابيع السعادة والرضا والطمأنينة. ومن داخل النفس مع إمساكها تدب عقارب القلق والتعب والنصب والكد والمعاناة!
هذا الباب وحده يفتح وتغلق جميع الأبواب، وتوصد جميع النوافذ، وتسد جميع المسالك. . فلا عليك. فهو الفرج والفسحة واليسر والرخاء. . وهذا الباب وحده يغلق وتفتح جميع الأبواب والنوافذ والمسالك فما هو بنافع. وهو الضيق والكرب والشدة والقلق والعناء!
هذا الفيض يفتح، ثم يضيق الرزق. ويضيق السكن. ويضيق العيش، وتخشن الحياة، ويشوك المضجع. . فلا عليك. فهو الرخاء والراحة والطمأنينة والسعادة. وهذا الفيض يمسك. ثم يفيض الرزق ويقبل كل شيء. فلا جدوى. وإنما هو الضنك والحرج والشقاوة والبلاء!
المال والولد، والصحة والقوة، والجاه والسلطان. . تصبح مصادر قلق وتعب ونكد وجهد إذا أمسكت عنها رحمة الله. فإذا فتح الله أبواب رحمته كان فيها السكن والراحة والسعادة والاطمئنان.
يبسط الله الرزق مع رحمته فإذا هو متاع طيب ورخاء؛ وإذا هو رغد في الدنيا وزاد إلى الآخرة. ويمسك رحمته، فإذا هو مثار قلق وخوف، وإذا هو مثار حسد وبغض، وقد يكون معه الحرمان ببخل أو مرض، وقد يكون معه التلف بإفراط أو استهتار.
ويمنح الله الذرية مع رحمته فإذا هي زينة في الحياة ومصدر فرح واستمتاع، ومضاعفة للأجر في الآخرة بالخلف الصالح الذي يذكر الله. ويمسك رحمته فإذا الذرية بلاء ونكد وعنت وشقاء، وسهر بالليل وتعب بالنهار!
ويهب الله الصحة والقوة مع رحمته فإذا هي نعمة وحياة طيبة، والتذاذ بالحياة. ويمسك نعمته فإذا الصحة والقوة بلاء يسلطه الله على الصحيح القوي، فينفق الصحة والقوة فيما يحطم الجسم ويفسد الروح، ويدخر السوء ليوم الحساب!
ويعطي الله السلطان والجاه مع رحمته فإذا هي أداة إصلاح، ومصدر أمن، ووسيلة لادخار الطيب الصالح من العمل والأثر. ويمسك الله رحمته فإذا الجاه والسلطان مصدر قلق على فوتهما، ومصدر طغيان وبغي بهما، ومثار حقد وموجدة على صاحبهما لا يقر له معهما قرار، ولا يستمتع بجاه ولا سلطان، ويدخر بهما للآخرة رصيداً ضخماً من النار!
والعلم الغزير. والعمر الطويل. والمقام الطيب. كلها تتغير وتتبدل من حال إلى حال. . مع الإمساك ومع الإرسال. . وقليل من المعرفة يثمر وينفع، وقليل من العمر يبارك الله فيه. وزهيد من المتاع يجعل الله فيه السعادة.
ومن رحمة الله أن تحس برحمة الله! فرحمة الله تضمك وتغمرك وتفيض عليك. ولكن شعورك بوجودها هو الرحمة. ورجاؤك فيها وتطلعك إليها هو الرحمة. وثقتك بها وتوقعها في كل أمر هو الرحمة. ... ورحمة الله لا تعز على طالب في أي مكان ولا في أي حال. وجدها إبراهيم عليه السلام في النار. ووجدها يوسف عليه السلام في الجب كما وجدها في السجن. ووجدها يونس عليه السلام في بطن الحوت في ظلمات ثلاث. ووجدها موسى عليه السلام في اليم وهو طفل مجرد من كل قوة ومن كل حراسة، كما وجدها في قصر فرعون وهو عدو له متربص به ويبحث عنه. ووجدها أصحاب الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدور. فقال بعضهم لبعض: {فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته} ووحدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه في الغار والقوم يتعقبونهما ويقصون الآثار. . ووجدها كل من آوى إليها يأساً من كل ما سواها. منقطعاً عن كل شبهة في قوة، وعن كل مظنة في رحمة، قاصداً باب الله وحده دون الأبواب.
أية طمأنينة؟ وأي قرار؟ وأي وضوح في التصورات والمشاعر والقيم والموازين تقره هذه الآية في الضمير؟!
آية واحدة ترسم للحياة صورة جديدة؛ وتنشئ في الشعور قيماً لهذه الحياة ثابتة؛ وموازين لا تهتز ولا تتأرجح ولا تتأثر بالمؤثرات كلها. ذهبت أم جاءت. كبرت أم صغرت. جلت أم هانت. كان مصدرها الناس أو الأحداث أو الأشياء!
صورة واحدة لو استقرت في قلب إنسان لصمد كالطود للأحداث والأشياء والأشخاص والقوى والقيم والاعتبارات.
ويبقى أن أتوجه أنا بالحمد لله على رحمة منه خاصة عرفتها منه في هذه الآية. .
لقد واجهتني هذه الآية في هذه اللحظة وأنا في عسر وجهد وضيق ومشقة. واجهتني في لحظة جفاف روحي، وشقاء نفسي، وضيق بضائقة، وعسر من مشقة. . واجهتني في ذات اللحظة. ويسر الله لي أن أطلع منها على حقيقتها. وأن تسكب حقيقتها في روحي؛ كأنما هي رحيق أرشفه وأحس سريانه ودبيبه في كياني. حقيقة أذوقها لا معنى أدركه. فكانت رحمة بذاتها. تقدم نفسها لي تفسيراً واقعياً لحقيقة الآية التي تفتحت لي تفتحها هذا. وقد قرأتها من قبل كثيراً. ومررت بها من قبل كثيراً. ولكنها اللحظة تسكب رحيقها وتحقق معناها، وتنزل بحقيقتها المجردة، وتقول: هأنذا. . نموذجاً من رحمة الله حين يفتحها. فانظر كيف تكون!
إنه لم يتغير شيء مما حولي. ولكن لقد تغير كل شيء في حسي! إنها نعمة ضخمة أن يتفتح القلب لحقيقة كبرى من حقائق هذا الوجود، كالحقيقة الكبرى التي تتضمنها هذه الآية. نعمة يتذوقها الإنسان ويعيشها؛ ولكنه قلما يقدر على تصويرها، أو نقلها للآخرين عن طريق الكتابة. وقد عشتها وتذوقتها وعرفتها. وتم هذا كله في أشد لحظات الضيق والجفاف التي مرت بي في حياتي. وهأنذا أجد الفرج والفرح والري والاسترواح والانطلاق من كل قيد ومن كل كرب ومن كل ضيق. وأنا في مكاني! إنها رحمة الله يفتح الله بابها ويسكب فيضها في آية من آياته.)) (في ظلال القرآن) [5/ 2921]
¥