تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[من حديث: (الصيام والقرآن.)]

ـ[مهاجر]ــــــــ[21 - 09 - 2008, 07:14 ص]ـ

من حديث: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد، يقول الصيام: أي رب، إني منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: رب، إني منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعان).

الصيام: "أل": جنسية، فجنس الصيام يشفع للمكلف، سواء أكان فرضا أم نفلا، فأطلق الصيام فلا وجه لتقييده، والأولى أن يقال: العموم مستفاد من "أل"، فتعم كل أنواع الجنس الذي دخلت عليه.

والقرآن: أي: قراءة القرآن، بدليل عطفه على عمل الصيام، فهي قرينة تدل على كون المقصود: العمل، وعمل العبد: القراءة، فمن ينكر المجاز يقول: لا تأويل هنا يضطرنا إلى تكلف علاقة ترجح إرادة غير الظاهر، لأن السياق نفسه يؤيد المعنى المقصود ابتداء، فالذهن ينصرف أول ما ينصرف إلى عمل العبد، فهو الذي ينفع صاحبه، فلا يقول أحد بأن القرآن: ورقا ومدادا، ينطق فيقول: منعته النوم بالليل، ولا يقول أحد بأن القرآن: صفةً للرحمن جل وعلا، هو المتكلم، فصفات الله، عز وجل، غير مخلوقة، فهي فرع على ذاته القدسية، فضلا عن دلالة الاقتران بالصيام، فهي وإن كانت ضعيفة عند جمع من أهل العلم إلا أن عطف القرآن على الصيام، وهو من أعمال المكلف، في سياق يبين ثواب العامل، قرينة أخرى على إرادة العمل وهو القراءة.

ولا يرد على ذلك عدم وجدان ذلك في الحياة الدنيا، فإن عدم الوجدان ليس عدما للوجود، كما يقول أهل العلم، ولكل دار أحكامها، فإذا كان نطق الأعمال، وهي أعراض لا أعيان متجسدة، أمرا غير واقع في الحياة الأولى، فإنه لا مانع شرعا ولا عقلا، من تصور وقوع ذلك في دار ثانية لا تسري عليها أحكام الدار الأولى، فهو مما تحار في كيفيته العقول، وإن كانت لا تحيله، فيدخل في باب الممكن أو الجائز، لا المحال أو الممتنع، ونطق الأعضاء، على سبيل المثال، أمر غير واقع، أيضا، في الحياة الدنيا، ومع ذلك صح تصور وقوعه في الحياة الآخرة، لعدم وجود ما يحيل ذلك عقلا، بل وجب الإيمان بذلك، لأن العمدة في الخبريات: النقل الصحيح عن المعصوم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فصار جائزا ابتداء، واجبا انتهاء، تصديقا لخبر الوحي، وهذا أصل مطرد في باب الخبريات: إذ مجرد تجويز وقوع الشيء، لا يعني وجوبه، لأن الإنسان قد يتصور أمورا كثيرة لا تدركها حواسه، ولا يحيلها عقله، ومع ذلك لا يكفي مجرد التصور في إثبات وجوبها، فإثبات الوجوب في أمر الغيب يفتقر إلى خبر يكون نصا في محل النزاع، كما يقول أهل العلم، ولو كان غيبا نسبيا يمكن إداركه بالحواس، فقد يفترض العقل وجود حبيب خلف جدار يحجب ما وراءه، وقد يفترض وجود عدو، وقد يفترض وجود حيوان أليف، وقد يفترض وجود حيوان متوحش، وقد يفترض .............. إلخ، وكلها أمور لا يحيلها العقل، ومع ذلك لا يوجد دليل عقلي على تعيين أحدها، لأنه غيب محض لا يفصل النزاع فيه إلا الخبر، فإن جاءه خبر صادق، ولو من مميز غير بالغ، بأن ما وراء ذلك الجدار مما غاب عنه: كذا وكذا، فإنه يعدل عن قوانينه العقلية مهما بلغ إتقانها، ويخضع لخبر من هو أدنى منه منزلة في العقل والفهم، فمعه زيادة علم، إذ اطلع على ما لم يطلع عليه غيره، فوجب تقديم خبره على كل قياس.

وإذا كان هذا في أخبار الدنيا، مع كون المخبر غير معصوم، وخبره خبر واحد قد لا تعلم عدالته بل قد يكون من غير أهل الأداء وإن صح تحمله كالطفل المميز، ومع ذلك وجب العمل به، فكيف إذا كان الخبر خبر الوحي المعصوم المنقول إلينا قرآنا متواترا أو سنة آحاد قد احتف بها من القرآئن ما رجح صحتها ووجوب العمل بها: خبرا وإنشاء؟!!.

ومن قال بالمجاز، فإنه يجعله من قبيل: "مجاز الحذف" فيقول: تقدير الكلام: وقراءة القرآن، وقد يَرِدُ على ذلك أن: القرآن لغة: مصدر "قرأ"، فيكون اللفظ بحقيقته اللغوية دالا على فعل العبد، فلا حاجة إلى تقديره، وبحقيقته الاصطلاحية دالا على المقروء الذي وقع عليه فعل القراءة.

الصيام والقرآن يشفعان للعبد: توكيد بتكرار الفاعل:

معنويا في صدر الجملة: "الصيام والقرآن".

ولفظيا في المضمر: "ألف التثنية" في: "يشفعان"، وتصدير الكلام بالمُشَفَع دليل على مزيد عناية به، فهو المقصود أصالة، بخلاف قولك: يشفع الصيام والقرآن، فإن محط الفائدة فيه: فعل الشفاعة لا المشفع.

يقول الصيام: أي رب، إني منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه:

الطعام والشهوات: عموم بعد خصوص، فأفرد الطعام بالذكر ابتداء إشعارا بمنزلته في باب ما يشتهى، فهو أعظم الشهوات وأنفعها للبدن، ثم عم، و "أل" في "الشهوات": للعهد الذهني، فهي تقتصر على: الطعام والشراب والجماع، ولو كان الصيام مانعا من كل الشهوات، إذا قيل بأن "أل" جنسية استغراقية لعموم ما دخلت عليه، لحرم على الصائم النوم، وهو شهوة، بل إن مقدمات الجماع، وهي مما يشتهى، ويتوصل بها إلى ما يشتهى، تحل للصائم، على تفصيل، فلا ينهى عنها إلا من خشي وقوعه في المحظور، فيكون النهي عنها من باب: سد الذرائع إلى المحظور، لا لكونها محظورة في نفسها.

وفي الكلام: منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه: تعقيب بذكر المسَبَبَ فرعا على سببه على وزان: سها فسجد

ويقول القرآن: رب، إني منعته النوم بالليل فشفعني فيه: على وزان ما تقدم، فالمسبب فرع على سببه، وتصدير الجملة بـ: "إن" في كلا الشطرين مشعر بعليتها لما بعدها، فعلة الشفاعة ما لقيه الصائم والقارئ من مشقة الجوع والسهر.

فيشفعان: في التعقيب: إشعار بسرعة إجابة الشفاعة.

وأخبار الوعد والوعيد تقتضي إنشاء الأمر بما وعد على فعله: إيجابا أو استحبابا، والنهي عما توعد على فعله: تحريما أو كراهة.

وإن كانت الكراهة لا وعيد عليها إن كانت تنزيها، فهي داخلة، عندئذ، في حد الوعد لا الوعيد، إذ فاعلها غير متوعد، وإن لحقه الذم في بعض الصور إن كانت مما يخل بالمروءة، وتاركها موعود بالثواب من جهة اجتنابه ما يكرهه الباري عز وجل.

والله أعلى وأعلم.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير