[من سيد الاستغفار]
ـ[مهاجر]ــــــــ[19 - 12 - 2008, 09:12 ص]ـ
ومن سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي:
استحضار للمخاطب، وإن كان غائبا عن الأبصار فقد رأته بصائر أهل الإيمان، على وزان قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)، فالرؤية البصرية محالة في الدنيا، والرؤية القلبية حاصلة لأولي الإحسان.
وفي السياق حصر بتعريف الجزأين: "أنت" و: "ربي"، والربوبية: ربوبية خلق وإيجاد، وربوبية إعداد وإمداد، فهو المربي لعباده مؤمنهم وكافرهم بنعمته العامة، فالخلق كلهم له مربوبون، ولعطاء ربوبيته مفتقرون، وهو المربي لأوليائه وأصفيائه بنعمته الخاصة، نعمة الإيمان: عطائه لأولي العرفان.
لا إله إلا أنت: استحضار آخر، وفيه الإشارة إلى معنى الألوهية، فرعا على ما تقدم من معنى الربوبية في: "أنت ربي" فهي ثنائية تكاد كل نصوص الوحي: كتابا وسنة تصب في قناتها.
خلقتني وأنا عبدك:
خلقتني: لازم ربوبية: "أنت ربي"، و: "أنا عبدك": لازم ألوهية: "لا إله إلا أنت"، فيكون في الكلام لف ونشر مرتبين، فقدم ذكر الربوبية لكونها الدليل، وقدم لازمها من الخلق والتقدير، وثنى بذكر الألوهية لكونها المدلول، وثنى بلازمها من العبودية الاختيارية: عبودية الطاعة والانقياد.
فهي عبودية خاصة غير عبودية الخلق العامة، فالأولى: انقياد لأمر التشريع، فلا تكون إلا لخواص عباده من المؤمنين الذين امتثلوا أمره فعلا ونهيه تركا، والثانية: انقياد لأمر التكوين فتعم: المؤمن والكافر، المقر والجاحد.
والحصر بتعريف الجزأين في: أنا عبدك" في مقابل الحصر بتعريف الجزأين في: "أنت ربي"، فتلك عبودية مطلقة في مقابل ربوبية مطلقة، فالقسمة ثنائية لا ثالث لها: رب معبود وعبد مربوب مقهور.
وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت: إطناب في بيان لوازم الألوهية يقتضيه مقام العبودية المفتقرة إلى عطاء الربوبية، وفيه إشارة لطيفة إلى ملزومها من الربوبية، فالداعي مقر بعجزه، مقدم لعذره: "ما استطعت"، ولسان حاله: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين).
وفي تقديم واجب الألوهية بين يدي السؤال من عطاء الربوبية: براعة في الاستهلال، فبعد أن أقر بضعفه وعجزه بادر بالطلب فقال:
أعوذ بك من شر ما صنعت: ولا تكون الاستعاذة إلا برب قادر على أن يصرف عن عبده السوء، وفي التنزيل: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)، فلما حقق مقام الألوهية: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ)، نال عطاء الربوبية: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)، وعطف بالفاء التعقيبية الجزائية، إشارة إلى عظيم قدرة الرب، جل وعلا، وفي ذلك لكل داع عبرة، فإن من حقق شرط العبودية نال مشروط الربوبية: ربوبية النصرة والنجدة والتأييد، والخلق في ذلك على مراتب لا يحصيها إلا الرب، جل وعلا، وبقدر تحقيق الشرط يكون حظ العبد من المشروط، فمن كانت عبوديته أكمل، كانت نجدته وذهاب غمه أسرع.
أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي:
إقرار بالتقصير في مقام الألوهية في مقابل تمام الربوبية، فخير نازل، وشر صاعد، وفيه من التوطئة لما بعده من:
فاغفر لي: تأله بالدعاء بعد الاعتراف بالذنب في مقابل النعمة، وبالتقصير في مقابل التمام، فرب يربي بالنعمة، وعبد يبارز بالمعصية.
وعلة ذلك:
فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت: فكأن في السياق سؤال مقدرا: وما علة طلب المغفرة من الله، عز وجل، دون من سواه من الرهبان والشيوخ والأولياء ......... إلخ.
فجاء الجواب:
مؤكدا بـ: "إن"، وضمير الشأن، وأقوى أساليب القصر: النفي والاستثناء، فضلا عن تسلط النفي على المصدر الكامن في الفعل: "يغفر" فأفاد عموم نفي المغفرة عمن سوى الله، عز وجل، ولا زال استحضار مقام الربوبية مطردا فجاء الضمير: "أنت" في نداء من غاب عن أبصار المكلفين وإن لم يغب عن قلوب الموحدين.
وبقدرتمكن هذا المعنى من قلب العبد يكون كمال التأله للرب، عز وجل، فإن من أيقن أن ذنبه لا يغفره إلا ربه، لم يتوجه بدعائه إلى أحد سواه، وكلما ضعف ذلك في قلب العبد استهوته شياطين الجن والإنس فزينت له دعاء غير الله، فتنقص عبوديته ويقل افتقاره إلى الرب، جل وعلا، بقدر عبوديته وافتقاره إلى غيره.
والله أعلى وأعلم.