من قوله تعالى: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ)
ـ[مهاجر]ــــــــ[30 - 01 - 2009, 02:19 م]ـ
ومن قوله تعالى: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)
فقد احتج بهذه الآية: بولص الراهب أسقف صيدا الذي نقض شيخ الإسلام: ابن تيمية، رحمه الله، رسالته في: "الجواب الصحيح"، احتج بها على أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم شاك في أمره فكيف يصح اتباع من ذلك حاله؟!!.
وفي ذلك قطع لهذا المقطع من الآية عن السياق الذي ورد فيه، إذ السياق: سياق مثبت غير شاك لكمال استقلال ربوبية الله، عز وجل، فقبله: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ * قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ).
ففيه سبر وتقسيم لأحوال الشركاء الذين زعمهم المشركون من دون الله، فإنهم: لا يملكون استقلالا، ولا شركا، وليسوا حتى ظهراء معاونين وإن لم يكن لهم ملك أو شرك، فلم يبق إلا المسكوت عنه، وهو أنهم مربوبون مقهورون كبقية الكائنات، وحذف ما دل عليه السياق أمر مطرد في التنزيل وهو مئنة من البلاغة إذ المنطوق دال على المسكوت، فذكر ما دل الدليل عليه حشو يتنزه عنه كلام آحاد العباد ممن لهم منطق بليغ فكيف بكلام رب العباد؟!!، فكيف يصح في الأذهان اتخاذهم شركاء لله، عز وجل، الرب المتفرد بكمال الخلق والإبداع والتدبير، وهل ذلك إلا من التسوية بين المختلفات التي تأباه العقول الصريحات؟!!، ولازم تفرده، جل وعلا، بكمال الربوبية: وجوب إفراده بكمال الألوهية، فإن ذلك السبر والتقسيم ما جاء إلا نفيا لصفات الربوبية عن تلك الآلهة وإثباتا لها للرب المتفرد جل وعلا.
ومع ذلك الإثبات الحاسم غير المتردد جاء نفي الشفاعة إلا لمن أذن الله، عز وجل، له، مع رضاه عن المشفوع له بأن يكون من أهل التوحيد، كما قرر ذلك أهل العلم باستقراء نصوص الشفاعة، وذلك، أيضا، مئنة من تمام ربوبيته، عز وجل، فإن ملوك الدنيا يفتقرون إلى الظهراء والمعاونين، فإذا شفع أولئك عندهم اضطروا إلى قبول شفاعاتهم استبقاء لولائهم، إذ لا غنى لهم عنهم، وذلك أمر فاش في المُلْك الجائر المستبد إذ يغض الملك طرفه عن كثير من تجاوزات أعوانه، ويقبل كثيرا من شفاعاتهم، وإن كانت باطلة، لأنه لا بقاء لعرشه إلا بمعونتهم، وذلك أمر يدل على نقص في الملك والتدبير، ومثل ذلك لا يتصور في حق الرب القاهر، جل وعلا، الذي علا بذاته وشأنه وقهره، فكل الكائنات مقهورة بإرادته الكونية النافذة، فظهر الفرق بنفي تلك الشفاعة الباطلة عن الرب، جل وعلا، مع ثبوتها في حق ملوك الدنيا، وإثبات الشفاعة الشرعية المقبولة بشرطيها: الإذن للشافع والرضا عن المشفوع له كما تقدم.
يقول ابن تيمية رحمه الله:
"وجواب أهل السنة، (أي عن آيات نفي الشفاعة من قبيل قوله تعالى: "فما تنفعهم شفاعة الشافعين")، أن هذا يراد به شيئان:
أحدهما: أنها لا تنفع المشركين كما قال تعالى في نعتهم: {ما سلككم في سقر} {قالوا لم نك من المصلين} {ولم نك نطعم المسكين} {وكنا نخوض مع الخائضين} {وكنا نكذب بيوم الدين} {حتى أتانا اليقين} {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} فهؤلاء نفي عنهم نفع شفاعة الشافعين لأنهم كانوا كفارا.
والثاني: أنه يراد بذلك نفي الشفاعة التي يثبتها أهل الشرك ومن شابههم من أهل البدع: من أهل الكتاب والمسلمين الذين يظنون أن للخلق عند الله من القدر أن يشفعوا عنده بغير إذنه كما يشفع الناس بعضهم عند بعض فيقبل المشفوع إليه شفاعة شافع لحاجته إليه رغبة ورهبة وكما يعامل المخلوق المخلوق بالمعاوضة". اهـ
"رسالة التوسل"، ص31.
¥