أسلوبُ الأمرِ: بلاغتُه وجمالياتُه ..
ـ[ندى الرميح]ــــــــ[23 - 11 - 2008, 05:58 ص]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عرف العلوي الأمر بنحو: " هو صيغة تستدعي الفعل، أو قول ينبئ عن استدعاء الفعل من جهة الغير على جهة الاستعلاء " (الطراز / 530).
وله صيغ أربع:
1/ فعل الأمر، نحو: " وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين " (البقرة: 43).
2/ المضارع المقرون بلام الأمر، نحو: " وليكتب بينكم كاتب بالعدل " (البقرة: 282).
3/ اسم فعل الأمر، نحو: (هلم) في قوله تعالى: " قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا " (الأحزاب: 18).
4/ المصدر النائب عن فعل الأمر، نحو: (إحسانا) في قوله تعالى: " واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا وبالوالدين إحسانا " (النساء: 36).
والأصل في فعل الأمر أن يدل على الوجوب، بيد أن الشواهد والاستعمالات تدفع إلى أن أسلوب الأمر تنزاح فيه المعاني إلى اتجاهات جديدة، يحددها سياق الكلام، وتؤطرها قرائن الأحوال.
فاتسعت دائرة المعاني التي يدور عليها فعل الأمر، وعظمت دلائله ثراءً، وتعددت إيحاءاته مما يدل على جمالية طرائقه بأشكال لافتة للنظر.
ومما يلي وَشْيٌ من خلابة دلائله وأغراضه:
1/ الدعاء:
لا أرق من صيغة الأمر المحملة بكل صنوف التضرع، والابتهال، والرجاء، والاستكانة من المخلوق للخالق:
" ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي ... " (النمل: 19).
ولم يجد كعب بن زهير أسلوبًا يستدر عطف الرسول به أرق وأنجع من أسلوب الأمر المستسلم الآيب:
مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة ... القرآن فيها مواعيظ وتفصيل
2/ التمني:
لمحادثة الأطلال، والبكاء على الديار نصيب وافٍ من أسلوب الأمر؛ وفيه تصبح الوظيفة النفسية والعاطفية أكثر تأملاً عند المتلقي، على نحو ما تمناه امرؤ القيس وسط الطلول الخربة هنا:
ألا عم صباحًا أيها الطلل البالي ... وهل يعمن من كان في العصر الخالي؟
3/ التهديد:
وتارة يتخذ أسلوب الأمر شحنة انفعالية متعاظمة في نفس المتكلم الآمر، ويكون أسلوب الأمر أقوى رادع، وأعظم منذر مهدد، مع ما في هذا وذاك من نذر السخط، وويلات المصير:
" قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار " (إبراهيم: 30).
4/ التحدي والتعجيز:
ولأسلوب الأمر مواقفه الحاسمة المتحدية المعجزة ... لنتأمل التعجيز في هذا الاستعمال القرآني الفريد:
" قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات أم آتيناهم كتابًا فهم على بينة منه ... " الآية (فاطر: 40).
أروني: أمر للتعجيز، فحواه: إذا كنتم علمتم أن هذه الأصنام عاجزة، فكيف تعبدونها؟ وإن وقع لكم توهم أن لها قدرة ما بوجه من الوجوه، فأروني تلك القدرة المزعومة: أهي في الأرض؟ أم في السماء؟ ينظر: التفسير الكبير: (26/ 29)، البحر المحيط: (7/ 302 - 303).
وفي هذا إفحام؛ لأنهم لن يستطيعوا أن يثبتوا شيئًا خلقته الأصنام، فيكون الأمر التعجيزي – عن طريق هذا الاستعمال والتركيب – أقوى وأبلغ في انتفاء قدرة الخلق عن الأصنام من مجرد النفي.
5/ التخيير:
ولنتأمل رقي أسلوب الأمر في بيت بشار:
فعش واحدًا أو صل أخاك فإنه ... مقارف ذنب مرة ومجانبه
نحس في الأمر بالتخيير جمالية الوظيفة النفسية الكامنة في احترام إرادة المخاطب، احترامًا يدفع إلى اتباع السلوك الأقوم والمؤمل، فهل يستوي مثل هذا الاستعمال واستعمال الأمر المباشر؟
6/ التقريع والإهانة:
لا أبلغ من التقريع والإهانة التي حملها فعل الأمر في قوله تعالى: " ذق إنك أنت العزيز الكريم " (الدخان: 49).
7/ المشورة:
وهذا غرض لطيف لأسلوب الأمر، يجعل فيه المتكلم المخاطب مشاركًا إياه في الرأي، طالبًا منه المشورة، ولا يلزمه بإنفاذهما، كما يطالعنا في سؤال إبراهيم لابنه – عليهما السلام -: " فانظر ماذا ترى " (الصافات: 102).
ولأسلوب الأمر أغراض أخرى غير ما تقدم، نحو: الإباحة، النصح، الإكرام، الإلهاب والتهييج، التحسر، التفويض، التسليم وغيرها من الأغراض.
وهذه الأغراض قد يتداخل بعضها في بعضها الآخر.
تلك وقفة موجزة مع جمالية من جماليات لغتنا العظيمة، وثرائها الأخاذ؛ إذ لا تقف الأغراض التي يؤديها أسلوب الأمر عند هذا الحد، ولا يمكن لباحث أن يحيط بها جميعها؛ لتعدد الرؤى والمواقف، وكل ذلك يؤكد عظمة أساليب العربية، وغناها في جماليتها المثيرة.
والله – تعالى – أعلم.
ـ[سمية ع]ــــــــ[23 - 11 - 2008, 12:01 م]ـ
جزاك الله خيرا أيتها المعلمة الفاضلة ...
ـ[أبو ضحى]ــــــــ[25 - 11 - 2008, 01:27 ص]ـ
جزاكم الله خيرا وزادكم علما.
ـ[ندى الرميح]ــــــــ[19 - 12 - 2008, 11:21 م]ـ
سمية ع، أبا ضحى:
لكما بمثل ما دعوتما. شكرًا على تلطفكما بالعبور.