من حديث: (أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ)
ـ[مهاجر]ــــــــ[28 - 01 - 2009, 10:21 ص]ـ
من قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم:
"أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَبِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ". اهـ
أعوذ برضاك من سخطك: استعاذة بصفات الله، عز وجل، فيها طباق بين الرضا وضده من السخط اللائقين بجلال الباري عز وجل.
وبمعافاتك من عقوبتك: صفتان هما فرعان على ما قبلهما، فالمعافاة فرع على الرضا، والعقوبة فرع على السخط، ففي الكلام عطف مسبَب على سببه، وفيه لف ونشر مرتبين، فمقابل الرضا المعافاة، ومقابل السخط العقوبة على الترتيب المتقدم.
وأعوذ بك منك: فمرجع كل تلك الصفات العلية إلى ذاتك القدسية، فإني إنما أستعيذ بصفات جمالك من صفات جلالك.
لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ:
لا أحصي: نفي تسلط على المصدر الكامن في "أحصي" فأفاد العموم فضلا عن عموم النكرة: "ثناء" في سياق النفي فمن ذا الذي يطيق إحصاء عموم ما يستحقه الباري عز وجل من الثناء، وفي المقابلة بين جملة نفي إحصاء الثناء من جهة العبد، وثباته من جهة الرب، ولقائل أن يقول هو: من طباق السلب بإثباات الإحصاء من وجه ونفيه من وجه آخر، في ذلك: ما يزيد ذلك المعنى بيانا.
وإلى طرف من ذلك أشار ابن أبي العز، رحمه الله، وهو من الربانيين الذين لهم لسان ناصح وقدم راسخة في الربانيات والإلهيات، ولا نزكيه على ربه، أشار بقوله:
"فتأمل ذكر استعاذته بصفة الرضا من صفة السخط، وبفعل المعافاة من فعل العقوبة، فالأول الصفة، والثاني لأثرها المرتب عليها، ثم ربط ذلك كله بذاته سبحانه، وأن ذلك كله راجع إليه وحده، لا إلى غيره، فما أعوذ منه واقع بمشيئتك وإرادتك، وما أعوذ به من رضاك ومعافاتك هو بمشيئتك وإرادتك، إن شئت أن ترضى عن عبدك وتعافيه، وإن شئت أن تغضب عليه وتعاقبه، فإعاذتي مما أكره ومنعه أن يحل بي، هي بمشيئتك أيضا، فالمحبوب والمكروه كله بقضائك ومشيئتك، فعياذي بك منك، وعياذي بحولك وقوتك ورحمتك مما يكون بحولك وقوتك وعدلك وحكمتك، فلا أستعيذ بغيرك من غيرك. ولا أستعيذ بك من شيء صادر عن غير مشيئتك، بل هو منك. فلا يعلم ما في هذه الكلمات من التوحيد والمعارف والعبودية، إلا الراسخون في العلم بالله ومعرفته ومعرفة عبوديته". اهـ
"شرح العقيدة الطحاوية"، ص228، 229.
فالكل من الله: إن خيرا ففضل مراد لذاته، وإن شرا فعدل مراد لغيره فليس إلى الله شرعا، وإن كان له كونا فالشر ليس إليه، فهو شر في المقدور لا القدر، وسوء القضاء الذي أمرنا بالاستعاذة منه: في المقضي لا في القضاء: فعل الرب، جل وعلا، فإن فعله كله خير، عرفنا ذلك أو جهلناه، وإنما يكون تارة مرادا لذاته، كمحبوبات الله، عز وجل، من الطاعة، وأخرى مرادا لغيره كالمعاصي التي يستخرج بها من عبوديات التوبة والإنابة ما يستخرج، ولا يعني ذلك تحريها، فإن القدر لا يحتج به في المعائب الشرعية وإنما يحتج به في المصائب الكونية.
وإلى ذلك أشار ابن أبي العز، رحمه الله، بقوله:
"يقال أولا: نحن غير مأمورين بالرضا بكل ما يقضيه الله ويقدره، ولم يرد بذلك كتاب ولا سنة، بل من المقضي ما يرضى به، ومنه ما يسخط ويمقت، كما لا يرضى به القاضي لأقضيته سبحانه، بل من القضاء ما يسخط، كما أن من الأعيان المقضية ما يغضب عليه ويمقت ويلعن ويذم.
ويقال ثانيا: هنا أمران:
قضاء الله؛ وهو فعل قائم بذات الله تعالى.
ومقضي: وهو المفعول المنفصل عنه. فالقضاء كله خير وعدل وحكمة، نرضى به كله، والمقضي قسمان: منه ما يرضى به، ومنه ما لا يرضى به.
ويقال ثالثا: القضاء له وجهان:
أحدهما: تعلقه بالرب تعالى، فمن هذا الوجه ونسبته إليه يرضى به.
والوجه الثاني: تعلقه بالعبد ونسبته إليه، فمن هذا الوجه ينقسم إلى ما يرضى به وإلى ما لا يرضى به. مثال ذلك: قتل النفس، له اعتباران: فمن حيث قدره الله وقضاه وكتبه وشاءه وجعله أجلا للمقتول ونهاية لعمره - يرضى به، ومن حيث صدر من القاتل وباشره وكسبه وأقدم عليه باختياره وعصى الله بفعله - نسخطه ولا نرضى به". اهـ
فالشر في فعل العبد لا في فعل الرب، جل وعلا، وفعل العبد لا يخرج عن إرادة الرب، جل علا، الكونية النافذة، وإن خرجت المعاصي عن إرادته الشرعية.
والله أعلى وأعلم.