[من قوله تعالى: (إن مثل عيسى.)]
ـ[مهاجر]ــــــــ[11 - 12 - 2008, 08:14 ص]ـ
من قوله تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)
ففي الآية الكريمة شبهة باردة ذكرها أنيس شروش في المناظرة الشهيرة بين الشيخ أحمد ديدات، رحمه الله، وبينه مستغلا عدم إلمام معظم الحاضرين بلغة التنزيل، فسياق الآية: سياق زمن ماض قد انقضى، فقد خلق عيسى عليه السلام بالكلمة التكوينية "كن" وانتهى الأمر، فكان ذلك مما يقتضي، بزعمه، أن يأتي الفعل: ماضيا: فيكون السياق: ثم قال له: كن فكان.
والجواب: أن مجيء المضارع هنا مقصود، إذ هو: استحضار للصورة المنقضية، لأن الآية نزلت في جدال النصارى الذين غلوا في المسيح، عليه السلام، فاستحضار الصورة يقرب الأمر إلى عقولهم فكأنه رأي عين، وفي هذا إبطال لمعتقدهم الفاسد، فضلا عن كون هذا الأمر في حد ذاته: آية كونية عظيمة، تستدعي التوقف عندها ولفت الأنظار إليها، ومما استعملته العرب في كلامها تنبيها للسامع: تغيير السياق من ماض إلى مضارع، أو العكس، فيسترعي تغيير نسق الكلام ذهن المخاطب، فينصت إلى المتكلم، وهو أمر شبيه بأسلوب الالتفات في الضمائر من الغيبة إلى الحضور، أو من الحضور إلى الغيبة ...................... إلخ من صور الالتفات.
كما في قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ)، فالسياق في حال عدم الالتفات: وجرين بكم، ولكنه التفت من الخطاب إلى الغيبة إعراضا عن ذكرهم لسوء حالهم، فهو مظنة الذم، وإليه أشار أبو السعود، رحمه الله، بقوله: "والالتفاتُ إلى الغَيبة للإيذان مما لهم من سوء الحالِ الموجبِ للإعراض عنهم كأنه يُذكر لغيرهم مساوىءُ أحوالِهم ليعجِّبهم منها ويستدعيَ منه الإنكارَ والتقبيحَ". اهـ
ومن صور التعبير عن الماضي بصيغة المضارع استحضارا للصورة:
قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)، فتقدير الكلام: فأصبحت الأرض مخضرة، ولكنه جاء بالمضارع استحضارا للصورة.
فالمعنى الأصلي قد أُدِيَ، فعلم السامع أن الله، عز وجل، أنزل من السماء ماء صير الأرض مخضرة، بإذنه الكوني، فنسبة الإنبات إلى الماء: مجاز إسنادي، فالمنبت حقيقة، هو الله، عز وجل، ولكن التعبير عن الماضي بصيغة المضارع أفاد استحضار الصورة، وكأن المطر قد نزل الآن فأصبحت الأرض مخضرة، وهذا معنى تابع لا يدرك ابتداء من مبنى الكلمات التي صيغت منها الجملة.
وقوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا)، فتقدير الكلام: فأثارت سحابا، ولكنه جاء بالمضارع استحضارا للصورة، ومثاله قوله تعالى: (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ).
وقوله تعالى: (وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ)، فالأصل في اسم الفاعل "باسط" أن يعمل عمل مضارعه: "يبسط"، وهو للحال أو الاستقبال، مع أن الحدث قد انقضى، ولكنه جاء بالمضارع، أيضا، استحضارا للصورة، فهي صورة مهيبة لقوم نيام وكلبهم باسط ذراعيه بوصيد الكهف وكأنه حارس مؤتمن عليهم.
وقوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ)، فالمعنى: لو أطاعكم في كثير من الأمر، ولكنه جاء بالمضارع لإفادة الاستمرار فيما مضى، فالمعنى: لو استمر على طاعتكم لهلكتم، فلوحظ معنى الاستمرار في المضارع، وإن كان الفعل ماضيا قد انقضى، فالمقصود من المضارع أصالة: معنى الاستمرار الذي وضع له.
¥