[جماليات التقديم والتأخير في البلاغة العربية (1)]
ـ[ابن عبد العزيز الرجداوي]ــــــــ[12 - 11 - 2008, 01:26 ص]ـ
دكتور
أسامة عبد العزيز جاب الله
كلية الآداب – جامعة كفر الشيخ
أولاً: مرحلة بداوة المصطلح
الشق الثاني: كتب النقد والبلاغة
أما فيما يتعلق بكتب النقد والبلاغة في مرحلة " بداوة المصطلح " فإن هذه المؤلفات نحت نحو الجانب التطبيقي والإشارة إلى وجود " التقديم والتأخير " كسمة أسلوبية في الأبيات والشواهد الشعرية. وقد أدار البلاغيون الأوائل آراءهم في هذه المرحلة على مدار الإجادة والإساءة في توظيف هذه السمة الأسلوبية، وفصلوا القول في مواطنها كما سنبين.
وينعقد الكلام على جهود هؤلاء البلاغيين الأعلام من خلال وقفات مع هذه الجهود لمحاورتها واستكناه غوامضها وكوامنها، والوقوف على مدارات تألقها، ومسارات ثرائها كما يلي:
الوقفة الأولى:
تتعلق هذه الوقفة بإشارات بلاغيي هذه المرحلة إلى توظيف " التقديم والتأخير " كسمة أسلوبية لها قيمتها في التراكيب النحوية، ومن ثم البلاغية. وما يترتب على هذه السمة من إجادة أو إساءة في النظم.
فابن قتيبة في معرض حديثه عن الآداب التي يجب على الكتاب التزامها في كتابه " أدب الكاتب " يقول ناصحا الكتاب: " نستحب له إن استطاع أن يعدل بكلامه عن الجهة التي تلزمه مستثقل الإعراب ليسلم من اللحن وقباحة التقعير " ().وتلك الإشارة الخفية يقصد بها "التقديم والتأخير " فما من وسيلة لتقعير وتعقيد المعنى سوى حركية دوال الجملة سلبا وإيجابا، وذلك لا يتسنى إلا "بالتقديم والتأخير". وهو وإن لم يصرح بالوسيلة التي تلغز الإعراب، وتعمي المعنى، فقد استبانت ضمنا.
أما ابن المدبر (ت279هـ) في رسالته الموسومة " بالرسالة العذراء " يجعل النصيحة أكثر تفصيلا وإيضاحا، إذ يقول: " أدر الألفاظ في أماكنها، واعرضها مع معانيها، وقلبها على جميع وجوهها، حتى تقع موقعها، ولا تجعلها قلقة نافرة، فمتى صارت كذلك هجنت الموضع الذي أردت تحسينه، وأفسدت المكان الذي أردت إصلاحه، واعلم أن الألفاظ في غير أماكنها، والقصد بها في غير مظانها، كترقيع الثوب الذي إذا لم تتشابه رقاعه، ولم تتقارب أجزاؤه، خرج عن حد الجدة، وتغير حسنه " ().
فهذه النصيحة الثرية تنبئ عن وعي وتنبه عميقين لدور " التقديم والتأخير " وتوظيفه أسلوبيا في عملية تركيب الجمل. تأمل قوله: " وقلبها على جميع وجوهها، حتى تقع موقعها " لكأني به يتحدث عن مدى صحة التراكيب المختلفة للجملة الواحدة، لكن ما يصح منها معنى ومضمونا هو عين الصواب، وذلك ما يعنيه بقوله: " حتى تقع موقعها ". وهي إشارة غاية في الروعة فيما ترمز إليه. وتأمل المثال الذي ضربه تمثيلا لحالة " التقديم والتأخير " من الإجادة والإساءة تجده رائعا في إشارته؛ إذ يجعل من عدم انسجامية النظم حالة أشبه بترقيع الثوب.
كذلك يجعل ابن المدبر الشعر موطنا للضرورات، فيغتفر فيه ما لا يغتفر في النثر، يقول: " ولا يجوز في الرسائل ما يجوز في الشعر؛ لأن الشعر موضع اضطرار فاغتفروا فيه الإغراب، وسوء النظم، والتقديم والتأخير، والإضمار في موضع الإظهار " ().فابن المدبر يجعل من هذه الوسائل الأسلوبية حال إساءة توظيفها في الشعر من الضرورات، لأن الشعر موضع اضطرار، ولذا نجد النقاد والبلاغيين يحاولون تأويل ما جاء من أبيات شعرية معقدة النظم على وجه مقبول.
ونجد لابن المدبر إشارة أخرى تتناول تراكيب الشعر بالذم، يقول: " وإساءة النظم في التأليف في الشعر كثير، تكون الكلمة بشعة حتى إذا وضعت موضعها وقرنت مع أخواتها حسن حالها وراقت ...... كما أن اللفظة العذبة إذا لم توضع موضعها نفرت " ().
¥