[التنبيه بالمثال على النوع إيجازا في البيان]
ـ[مهاجر]ــــــــ[23 - 02 - 2009, 09:22 ص]ـ
من قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم:
"الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْعَظْمِ عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ"
فقوله: "الإيمان": "أل" فيه عهدية ذهنية تشير إلى معهود بعينه وهو الإيمان الشرعي، إذ السياق سياق شرعي لا لغوي أو عرفي ليعدل عن الحقيقة الشرعية إلى الحقيقة اللغوية أو العرفية.
وقد عرف الإيمان في هذا السياق بذكر شعبه مجملة، فهو تعريف باعتبار الأفراد، بخلاف من عرفه بنحو: ما وقر في القلب وصدقه العمل، فهو تعريف بالفائدة، أو عرفه بنحو: عقد القلب الجازم وقول اللسان المقر وعمل الجوارح المصدق، فهو تعريف بالأنواع التي تندرج تحتها الأفراد المذكورة في حديث الشعب، فنوع القلب تحته أفراد من الخوف والرجاء والتوكل ........ إلخ، ونوع اللسان تحته أفراد من التهليل والاستغفار والتسبيح ............. إلخ، ونوع الجوارح تحته أفراد من الصلاة والصيام والحج والجهاد ................ إلخ. وبخلاف ما عرف به في حديث وفد عبد القيس: (أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصِيَامُ رَمَضَانَ وَأَنْ تُعْطُوا مِنْ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ)، فهو تعريف بالمباني الأساسية، وواجب الوقت الذي قامت الحاجة إلى بيانه في حق أولئك، لمجاورتهم المشركين، وذلك مظنة القتال إذا نزل الوحي بتشريعه، فلكل مقام مقال، ولكل تعريف موضعه، وقد يجب في حق زيد ما لا يجب في حق عمرو، كالغني الذي يجب في حقه من الزكاة ما لا يجب في حق الفقير.
وقد أجمل، كما تقدم، فذكر الشعب بلا تفصيل تشويقا للمخاطب إذ تتشوف نفسه إلى بيان هذا الإجمال.
ثم جاء البيان بنوع تفصيل فيه من الشمول ما ينزل منزلة النص على أعيان تلك الشعب، وإن لم تسرد كاملة، إذ عرف العام بذكر بعض أفراده، فعرف نوع القول بالشهادة، ونوع العمل بإماطة الأذى عن الطريق، ونوع القلب بالحياء، فاستوفى القسمة الثلاثية بذكر مثال لكل نوع، وقد تقرر في الأصول أن ذكر بعض أفراد العام لا يخصصه فهو ينزل منزلة التعريف بالمثال، والذهن يقيس بقية الصور المسكوت عنها على الصور المنصوص عليها، وذلك مئنة من بلاغة المتكلم إذ استوفى الأركان بالبيان تمثيلا، لئلا يطول المقام فتسأم نفس المخاطب وتتحير بكثرة الشعب، فعنده من كل نوع مثال والنظير يلحق بنظيره، ولذلك اجتهد بعض أهل العلم، كابن حبان، رحمه الله، في استقصاء هذه الشعب باستقراء النصوص، إذ ذلك مما يصح إعمال آلة الاجتهاد في تحصيله، فقد سكت الشارع، عز وجل، عن بقيتها شخذا للهمم وتشميرا لسواعد الجد في تحريرها علما وامتثالها عملا.
وقل مثل ذلك في نحو قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الْقَمِيصَ وَلَا الْعِمَامَةَ وَلَا السَّرَاوِيلَ وَلَا الْبُرْنُسَ)، فقد أشار بتلك الأمثلة إلى أجناس اللباس المحظور في الإحرام فكان تمثيلا في مقام البيان، فلا يخصص العام به، وإنما تقاس عليه بقية الصور فيلحق النظير بنظيره أيضا: فالقلنسوة تلحق بالعمامة، وما يغطي أسافل البدن من المخيط يلحق بالسراويل، وما يغطي أعاليه من المخيط يلحق بالقميص، وما يلتحف به فوق الثياب كالعباءة يلحق بالبرنس، وهكذا، وذلك، أيضا، مئنة من بلاغته صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إذ اكتفى بالمثال في معرض البيان فعرف المراد بأوجز عبارة، إذ سرد أنواع اللباس مما يطول بل قد لا ينتهي، فالتنبيه عليها بالوصف دون الاسم كاف في حصول البيان المراد.
والله أعلى وأعلم.
أصل هذه الفائدة مستفاد من تعليق الشيخ صالح آل الشيخ، حفظه الله وسدده، على حديث شعب الإيمان في شرحه على الطحاوية، (1/ 817).
ـ[مهاجر]ــــــــ[26 - 02 - 2009, 09:21 ص]ـ
ومثله قوله صلى الله عليه وعلى أله وسلم في الأضحية: (أَرْبَعٌ لَا تُجْزِئُ الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ظَلْعُهَا وَالْكَسِيرُ الَّتِي لَا تُنْقِي)
فذكرها مجملة حيث قدم المسند إليه: "أربع" تشويقا، ثم فصل الإجمال بذكر الحكم: "لَا تُجْزِئُ"، ثم الأنواع: الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا ..........
و: "أل" في: "العوراء" جنسية لبيان الماهية ففيها، أيضا، نوع إجمال بينته جملة النعت: "الْبَيِّنُ عَوَرُهَا"، إذ خصت العور بنوع بعينه، وقل مثل ذلك في بقية الأنواع.
وقد نبه بها، أيضا، على نظائرها من العيوب التي تؤثر في اللحم بالنقصان، كما ذكر صاحب "منار السبيل"، وإلا لو سرد أعيان ما لا يجزئ ما انتهى الأمر فنبه بالمذكور على غير المذكور إيجازا في البيان.
والله أعلى وأعلم.