أما النوع الثالث وهو ما قدم في آية وأخر في أخرى. فمنه قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ) () وقوله تعالى: (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ) () فالتقديم في الآية الأولى جاء على الأصل، وفي الآية الثانية جاء على تقدير الجواب، فكأنه قيل إجابة عن سؤال لمن الحمد؟ فقيل: لله الحمد. وقد استشهد الزركشي لهذا النوع باثنتاعشرة آية قرآنية.
تلك هي أهم جهود الزركشي فيما يخص مبحث " التقديم والتأخير " في كتابه " البرهان في علوم القرآن ".
أما السيوطي فقد كانت له جهود ثرية في العناية بالمبحث، إذ تناوله في أكثر من مؤلف مثل " الإتقان في علوم القرآن " و" معترك الأقران في إعجاز القرآن ". ولتكن البداية مع كتاب " الإتقان " فقد عقد السيوطي الباب الرابع والأربعين" للتقديم والتأخير " وسماه " في مقدمه ومؤخره "، وقسمه إلى قسمين هما ():القسم الأول: ما أشكل معناه ظاهرا، فلما وضح ما فيه من تقديم وتأخير اتضح المعنى، وأوضح السيوطي أهمية هذا القسم بقوله: " وهو جدير بأن يفرد بالتصنيف " ().كذلك أشار السيوطي مدى عناية السلف بهذا النوع، وتأكيدهم على أهميته، وجهودهم في بيان بعض ما أشكل من الآيات القرآنية لما تضمنته من " التقديم والتأخير ".
أما القسم الثاني: فهو على خلاف الأول، وقد ذكر السيوطي أن العلامة (شمس الدين ابن الصائغ الحنفي) ألف فيه كتابا سماه " المُقَدِّمَة في سر الألفاظ المُقَدَّمَة " ذكر فيه أن أسباب "التقديم والتأخير" في كتاب الله العزيز عشرة أسباب هي: ()
الأول: التبرك كتقديم اسم الله في كل الأمور نحو قوله تعالى: (شَهِدَ الْلَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ). ()
والثاني: التعظيم نحو قوله تعالى: (وَمَنْ يُطِعْ الْلَّهَ وَالرَّسُولَ) ().
والثالث: التشريف كتقديم الحي على الميت، والذكر على الأنثى نحو قوله تعالى: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) ().
والرابع: المناسبة أي مناسبة المتقدم لسياق الكلام الوارد قبله نحو قوله تعالى: (يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) ().
والخامس: الحث عليه والحض على القيام به مثل تقديم الوصية على الدين نحو قوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ) ().
والسادس: السبق بالزمان أو بالمكان مثل تقديم الليل على النهار، والظلمات على النور، وآدم على نوح، ومنه قوله تعالى: (صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) ().
والسابع: السببية نحو تقديم العزيز على الحكيم، قال تعالى: (يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) ().
والثامن: الكثرة كقوله تعالى: (فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) ().
والتاسع: الترقى من الأدنى إلى الأعلى نحو قوله تعالى: (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٌ يَبْطُشُونَ بِهَا) ().
والعاشر: التدلي من الأعلى إلى الأدنى نحو قوله تعالى: (لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ) ().
هذه هي الأسباب التي ذكرها ابن الصائغ الحنفي في كتابه، ونقلها عنه السيوطي، فحفظها لنا وإلا لضاعت فيما ضاع من تراثنا، فجهد السيوطي هنا مجرد النقل لآراء ابن الصائغ، ولم يضف جديدا يذكر في هذا المقام، كذلك لم يفلسف الأمور بما تميز به من فلسفة التنظيم والتعليق.
أما تناول السيوطي للمبحث في كتابه " معترك الأقران في إعجاز القرآن " فقد تميز بفعل التكرار لما سبق وأن تناوله في " الإتقان " نصاً دون زيادة أو نقصان، وهذا شيء عجيب حقا.
الهوامش:
1. - سورة الحج: آية رقم (22).
2. - أبو عبيدة (معمر بن المثنى)، مجاز القرآن، تحقيق: د. محمد فؤاد سزكين، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1988، 1/ 12.
3. - المرجع السابق، 1/ 12، 1/ 173، 1/ 185، 1/ 398، 2/ 15، 2/ 34، 2/ 154.
4. - سورة الأعراف: آية رقم (7).
5. - الأخفش (أبو الحسن سعيد بن مسعدة)، معاني القرآن، تحقيق: د. هدى قراعة، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1990، 1/ 328.
6. -الأخفش، معاني القرآن، 1/ 328، 2/ 466، 2/ 574.
7. - ابن قتيبة (أبو محمد عبد الله بن مسلم)، تأويل مشكل القرآن، تحقيق: السيد صقر، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط2، 1973، 37.
¥