تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وفي ذلك الاستفهام: تنبيه لطيف وإلزام عقلي صحيح، إذ أبطل مقالتهم بألوهية المسيح عليه السلام، ببيان عجزه عن القيام بوصف الرب، جل وعلا، فاستحقاق الألوهية إنما يكون فرعا على كمال الربوبية، فإذا كان عاجزا عن صيانة نفسه من التلف إن أراد الله، عز وجل، ذلك بها، فكيف يقدر على ربوبية غيره: ربوبية إيجاد من العدم، وهو الذي كان عدما قبل أن يوجد، وإعداد، وهو الذي كان جنينا لا يعقل حتى أعد الله، عز وجل، بدنه وروحه لتحمل أعباء الرسالة، وإمداد، وهو الذي افتقر إلى عطاء الربوبية فأمده الله، عز وجل، كغيره من البشر بأسباب حياة البدن، وفضله بأسباب حياة الروح فبعثه إلى بني إسرائيل مبشرا برسول يأتي من بعده اسمه أحمد، فهو مفتقر إلى الرب، جل وعلا، في كل أحيانه وأحواله، فكيف يصح في الأذهان وصفه بصفات الربوبية من غنى وقهر وخلق ورزق ........... إلخ ليصح التزاما وصفه بالألوهية؟!!!

وفي قوله: ومن في الأرض جميعا: عموم بعد خصوص، دل عليه الموصول: "من" فهو نص في العموم، فضلا عن التوكيد بـ "جميعا"، لبيان طلاقة قدرة الرب، عز وجل، والنص عليه في هذا المقام آكد لبيان كمال غنى الرب وقدرته في مقابل فقر غيره وعجزه، فمن كان هذا نعته فإنه المستحق قطعا لكمال التعبد بأفعال العباد فرعا على كمال أفعاله عز وجل.

وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا: إيغال في تقرير كمال ربوبية الله، عز وجل، فاللام في لفظ الجلالة: "لله" لام الملكية والاستحقاق، وقد قدم "لله" وحقه التأخير حصرا وتوكيدا، فله وحده عموم ملك السماوات والأرض وما بينهما الذي دل عليه: "أل" الجنسية الاستغراقية لعموم ما دخلت عليه في "السماوات" و "الأرض"، و عموم الموصول "ما"، فاستوفى أركان القسمة العقلية: ما علا من السماوات وما سفل من الأرضين وما بينهما.

يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ: تنبيه على وصف من أخص أوصاف الربوبية وهو الخلق، ففيه التعريض بالمثلثة الذين عدلوا عن عبادة الخالق إلى عبادة المخلوق.

وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: تذييل يناسب المقام حمل تقريرا جديدا لكمال ربوبية الله، عز وجل، فهو القادر على كل شيء، فلزم من ذلك إفراده بالسؤال إذ لا يسأل العاجز عن قضاء الحوائج، والتوجه بالسؤال إلى الرب، جل وعلا، لقضاء الحوائج من آكد العبادات التي هي مقتضى الألوهية فـ: "الدعاء هو العبادة"، كما في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، فقصر العبادة على الدعاء قصرا إضافيا، إذ جنس العبادة يعم الدعاء وغيره من صنوف أفعال المكلفين، ولكنه خصه بالذكر في ذلك السياق الحاصر تنويها بذكره، فهو من آكد العبادات كما تقدم، ومعظم الشرك في الأرض إنما يكون بصرفه لغير الله، عز وجل، فوجب التبيه عليه بعينه، لعموم البلوى، وفي الحديث أيضا من المؤكدات: تعريف الجزأين: "الدعاء" و "العبادة"، والتوكيد بضمير الفصل "هو"، وفي ذلك من مزيد الاعتناء بشأنه ما فيه، وقد جعله الله، عز وجل، مكافئ العبادة في قوله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ).

وفي آخر الآية حصر وتوكيد آخر بتقديم ما حقه التأخير: "على كل شيء" إمعانا في بيان عظم القدرة الإلهية، فضلا عن عموم صيغة "كل" الذي يزيد معاني الربوبية تمكنا في نفس المخاطب، فيكون ذلك باعثا له على تحقيق كمال الألوهية مراد الله، عز وجل، من عباده.

وفي موضع تال من نفس السورة:

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ:

فهو بمنزلة التكرار لما تقدم في الآية الأولى، فعظم الجرم يستلزم عظم الإنكار.

وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير