فبطلان دعائهم الذي هو من أخص أنواع التأله فرع على بطلان ربوبيتهم، فلم يخلقوا شيئا، وليس لهم شرك يجوز دعاءهم، فهم مربوبون مقهورون لا استقلال لهم بتدبير أمرهم فضلا عن أمر غيرهم!!!
و "شرك": نكرة في سياق الاستفهام الإنكاري التوبيخي، فتفيد العموم، فليس لهم شرك، أي شرك في السماوات يجوز دعاءهم كما تقدم.
وفي تكرار الأمر بـ: "ائتوني" بعد "أروني": مزيد تبكيت، ودخول: "من" الجنسية على: "علم": أبلغ في نفيه، فدلالتها الجنسية تدل على عموم التحدي بالإتيان بأي علم يسوغ ما وقعوا فيه من شرك، واتساع دائرة التحدي مع فشلهم فيه دليل دامغ على بطلان دعواهم.
وقد ختمت الآية بشرط يفيد التحدي بإلهاب مشارع المتحدى وتهييجها إمعانا في بيان عجزه.
وعودة إلى آية آل عمران:
، فهو الله: إثباتا، وقد أكد ذلك بنفي صفة الألوهية عمن سواه: "لا إله إلا هو"، و"أل" في: "الحي" و "القيوم": جنسية استغراقية لمعاني الحياة والقيومية، فالاستغراق هنا: استغراق أوصاف لا أعيان، إذ ذات الموصوف واحدة لا تتعدد بتعدد أوصافه، بل يزداد كماله بزيادة أوصافه جمالا وجلالا، والحياة: أصل صفات الذات، فله الحياة الكاملة، وصف ذات، وهو المحيي لغيره: وصف فعل يتعلق بمشيئته، وهو الذي يوقع فعل الإحياء إذا شاء متى شاء كيف شاء، وفي التنزيل: (هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، فطابق بين الإحياء والإماتة فعلا لاستيفاء القسمة العقلية.
و: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
فالله هو المعبود بحق، وقد أكد ذلك بتعريف الجزأين: "الله" و "الحق"، وضمير الفصل: "هو"، واسمية الجملة، وعطف على المعلول علته، فعلة كمال ألوهيته: أنه يحيي الموتى، فهذا خاص، وأنه على كل شيء قدير فهذا عام، وأكد الإحياء بـ: "أن"، وكررها توكيدا في بيان قدرته العامة، والإتيان بالمضارع: "يحيي" يدل على الاستمرار، والمصدر المؤول أبلغ في تقرير ذلك من المصدر الصريح: "محيي الموتى".
والقيومية: أصل صفات الأفعال، فهو القائم بنفسه المقيم لغيره المحصي لعمله، فهو: (قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ).
وفي موضع تال من أول سورة آل عمران يقول الله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)
ففي قوله: (إن الله لا يخفى): توكيد بـ: "إن" واسمية الجملة ودلالة المضارع في خبرها على الاستمرار، و تنكير: "شيء" في سياق النفي، فيفيد العموم، فلا يخفى عليه أي شيء في الأرض ولا في السماء، وكرر النفي في: "ولا في السماء" من باب التوكيد، أيضا، و "أل" في: "الأرض" و "السماء": جنسية استغراقية، فلا يخفى عليه أي شيء في أي أرض أو أي سماء، فهو الذي أحاط بكل الكائنات سمعا وبصرا وعلما، والعلم من أخص أوصاف الربوبية.
و: (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ)، فالإتيان بالموصول وصلته: المضارع: "يصوركم" أبلغ في تقرير المعنى من جهة دلالة المضارع على الاستمرار، ومن جهة استرعاء الانتباه بإجمال الموصول الذي بينته الصلة، فالبيان بعد الإجمال مظنة تقرير المعنى، فلا ينسى الإنسان عادة بيان ما استشكل عليه.
وفي الآية تعريض بالنصارى المثلثة، فهو الذي يصور العباد في أرحامهم، والمسيح عليه السلام الذي غلوا فيه، واحد منهم، فبم امتاز عليهم ليكون إلها معبودا، وهو مثلهم: مربوب يفتقر إلى ربه، فبطلان ألوهيته فرع على بطلان ربوبيته، كما أن كمال ألوهية الله، عز وجل، فرع على كمال ربوبيته، فالتعريض بافتقار المسيح عليه السلام إلى عطاء الربوبية، ينبه بمفهومه على كمال غنى ربه، عز وجل، فيكون هو المستحق لكمال الألوهية كما تقدم.
ولذلك عقب بإثبات انفراد الله، عز وجل، بالألوهية الحقة، فقال: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
وتستمر ثنائية: الربوبية والألوهية مطردة في آي الكتاب العزيز.
والله أعلى وأعلم.
ـ[الأديب اللبيب]ــــــــ[16 - 12 - 2008, 07:52 ص]ـ
قبل قليل كنت أقرأ في مشاركتك السابقة من سورة المائدة، فبارك الله فيك،
وزادك علما ونورا وهداية، وحفظك ورعاك وتولاك.