تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وفي قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

القصر أيضا: قصر قلب لاعتقاد المخاطب.

يقول ابن هشام رحمه الله:

"وقوله، (أي: الزمخشري غفر الله له): إن دعوى الحصر هنا باطلة لاقتضائها أنه لم يوحَ إليه غيرُ التوحيد مردودٌ أيضاً بأنه حَصر مُقيد؛ إذ الخطابُ مع المشركين؛ فالمعنى ما أوحي إليَّ في أمر الربوبية إلا التوحيد، لا الإشراك، ويسمى ذلك قَصْر قَلْب؛ لقَلْب اعتقاد المخاطب". اهـ

"مغني اللبيب"، (1/ 62).

ومثله قوله تعالى: (إن هم إلا كالأنعام).

فليسوا كالأنعام من كل وجه، وإنما هم كالأنعام من جهة عدم الفهم والتدبر مع سلامة آلات الفهم فكأنها معدومة لعدم الانتفاع بها.

وقول أبي الحسنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه:

"إِنَّهُ لَعَهْدُ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيَّ أَنْ لَا يُحِبَّنِي إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا يُبْغِضَنِي إِلَّا مُنَافِقٌ".

فإن القصر هنا، كما قرر أهل العلم، ينبغي أن يقيد ببغض علي، رضي الله عنه، بغضا دينيا، كأن يبغض من جهة إيمانه، أو صحبته للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو سابقته في الإسلام، فإن ذلك مئنة من النفاق بل الكفر، بخلاف بغضه من جهة أمر دنيوي، كما وقع من المروانية ومن انتحل النصب من أهل الشام، فإنهم، مع قبح بدعتهم، لم يكفروا بها، لأنهم ما أبغضوا عليا، رضي الله عنه، من جهة دينه، وإنما أبغضوه لأمر دنيوي وهو ما وقع بين الفريقين يوم صفين، فقد قتل من أهل الشام في ذلك اليوم من قتل، فكان ذلك مما أثار حفيظتهم على علي، رضي الله عنه، مع كون طائفته أدنى الطائفتين إلى الحق، بنص النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على ذلك، فهو المصيب في تلك الفتنة، وإن كان خصمه معذورا باجتهاده بإجماع من يعتد بقوله.

وقد ورد ذلك، أيضا، في حق الأنصار، رضي الله عنهم، في حديث البراء، رضي الله عنه، مرفوعا: "الْأَنْصَارُ لَا يُحِبُّهُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا يُبْغِضُهُمْ إِلَّا مُنَافِقٌ".

فما قيل في حديث علي، رضي الله عنه، يقال فيه، إذ لا بد من تقييد القصر في الحديث بالبغض لأمر ديني لا دنيوي.

وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم للأعرابي الذي سأله عن الوضوء بعد أن توضأ أمامه كما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "هذا الوضوء".

فإن القصر هنا بتعريف الجزأين: المبتدأ: "هذا"، والخبر: "الوضوء". ولا بد في هذا السياق، أيضا، من تقييده بكونه إضافيا من جهة الإجزاء، فتقدير الكلام: هذا الوضوء المجزئ، ومن هنا وقع الخلاف بين أهل العلم، في أمور شرعت في الوضوء ولم يرد ذكرها في هذا الحديث، هل هي من الواجبات أو المسنونات، كالتسمية، فمن يقول: هي مسنونة، يرجح أن القصر هنا: قصر إضافي مقيد بالإجزاء، فيكون الواجب المجزئ ما ورد في الحديث وما زاد عنه فهو نافلة مشروعة، فلا يبطل الوضوء بتركها، وإن نقص العمل بترك السنة. ومما يؤيد ذلك أن المقام مقام تعليم، فيحسن الاكتفاء بداية بالواجب الذي لا يصح العمل إلا به، لئلا يشق الأمر على المتعلم فإذا ما أتقنه صار أهلا حينئذ لتعلم المسنون الذي يجود به عمله. والحاجة قد قامت إلى بيان الوضوء بسؤال ذلك الأعرابي، فلو كانت التسمية مما لا يصح الوضوء إلا به لما وسعه صلى الله عليه وعلى آله وسلم السكوت عن بيانها، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة في حقه صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما قرر أهل العلم.

وهكذا يظهر من خلال التأمل في السياق مراد المتكلم من استعمال أسلوب القصر، فليس كل قصر حقيقيا، فالمبنى الموضوع واحد، والمعنى المراد متعدد بتعدد أغراض المتكلم.

ومما يذكر في هذا الشأن أيضا:

تدرج أساليب القصر في القوة تبعا لحال المخاطَب، فليس قولك: إنما الشاعر المتنبي، كقولك: ما الشاعر إلا المتنبي، فالأول يحسن في حق غير المنكر الذي يقر بشاعرية المتنبي فهي عنده من قبيل المسلمات بخلاف الثاني فإنه يحسن في حق المنكر، إذ القصر بالنفي والاستثناء أقوى دلالة من القصر بـ: "إنما".

وقد تكون البلاغة في إيراد المختلف فيه إيراد المسلمات، كالكاذب يدعي ما ليس له، فيورده إيراد المسلم الذي لا يقبل الجدال، كما في:

قوله تعالى: (إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)، فهم مفسدون بلا شك، ولكنهم بالغوا في ادعاء ما ليس لهم من الحكمة والإصلاح حتى ظنوا أنه أمر قاطع لا يقبل الاحتمال وفتش في تصريحات كثير من منافقي زماننا وحاشية السوء التي تحيط بهم تجد مادة ثرية من هذا النوع!!!!

ومما يذكر أيضا:

أنه بتعيين المقصور والمقصور عليه يظهر مراد السامع، فليس قولك: إنما المتنبي شاعر، كقولك: إنما الشاعر المتنبي، فالثاني أبلغ في المدح من جهة قصر صفة الشاعرية على المتنبي فكأنه لا شاعر، عند التحقيق، إلا هو، فقد بلغ الذروة في ذلك، بخلاف الأول فالقصر فيه قصر موصوف على صفته، فلا يمنع ذلك من دخول غيره معه في ذلك الوصف، والانفراد مظنة المدح، والاشتراك لا مدح فيه إذ لا يظهر فيه تميز المذكور عن بقية أقرانه.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير