(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ
سَعِيرًا).
فالآية مصدرة بالتوكيد بـ: "إن"، فضلا عن اسمية الجملة، و: "الذين" كما تقرر، مرارا، مجمل بينه ما بعده، إذ تعلق الحكم بالوصف الذي اشتقت منه جملة الصلة المبينة: "يأكلون" وهو: "الأكل"، وهو، أيضا، من باب ذكر بعض أفراد العام فلا يخصصه، إذ المعنى العام الذي تعلق به الحكم هو: الانتفاع بمال اليتيم بلا وجه حق، وهو أمر متحقق في صورة الأكل والشرب واللبس ........... إلخ من صور الانتفاع، بل لو قال قائل إن المعنى العام هو: الإتلاف ما أبعد، فيدخل في ذلك كل صور الإتلاف من قبيل: الإحراق والإغراق .......... إلخ على وجه القياس المساوي الذي تجمع صوره علة الإتلاف فهي متحققة في كلٍ.
و: "ظُلْمًا": قيد معتبر المفهوم إذ أكل أموالهم بالحق لا جناح على فاعله.
"إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا": قصر إضافي للتوكيد على معنى الوعيد الذي تضمنه، والظرفية في: "في بطونهم": مئنة من خسة همة فاعله إذ تعلقت بملء بطنه كأي دابة لا تعقل.
وإلى ذلك أشار القرطبي، رحمه الله، بقوله:
"وخص البطون بالذكر لتبيين نقصهم، والتشنيع عليهم بضد مكارم الأخلاق". اهـ
"الجامع لأحكام القرآن"، (5/ 46).
وفيه أيضا نوع توكيد إذ الأكل لا يكون إلا في البطون، فجيء بظرف المأكول توكيدا، على وزان قوله تعالى: (وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ)، والطائر لا يطير إلا بجناحيه، فلا يكون للوصف هنا مفهوم إذ لا أكل في غير البطون ولا طيران بغير أجنحة.
و: "نارا": مجاز عند من يقول به، علاقته: المسببية، إذ أطلق المسبَب وهو "النار" وأراد سببه وهو: أكل أموال اليتامى ظلما، فهو سبب لدخول النار، إلا أن يشاء الله، عز وجل، غير ذلك، فيعفو لحسنات ماحيات أو مصائب مكفرات ......... إلخ من موانع نفاذ الوعيد، أو يعفو، جل وعلا، ابتداء، فضلا منه ومنة، فمرتكب الكبيرة تحت مشيئته: إن شاء غفر فضلا، وإن شاء عذب عدلا.
وقد جعله القرطبي، رحمه الله، من صور المجاز باعتبار ما يؤول إليه الأمر على وزان قوله تعالى: (إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا)، إذ مآل المعصور: الخمر، ومآل أكل أموال اليتامى ظلما: النار.
وحديث: (رأيت قوما لهم مشافر كمشافر الإبل وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار يخرج من أسافلهم فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟، قال: هم الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما)، على ضعف في إسناده يرجح الحقيقة على المجاز، إذ الأكل فيه: أكل حجارة حقيقية من نار.
وقوله: (وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا): تعجيل بالمساءة، دلت عليه السين، من باب الزيادة في الوعيد، وقرأ أبو حيوة رحمه الله: "وسيصلون": بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام من باب الزيادة في المعنى فرعا عن الزيادة في المبنى بالتضعيف، فتكون تصليتهم مرة بعد مرة، كما أشار إلى ذلك القرطبي رحمه الله.
والخبر، كأي وعد أو وعيد: خبري المبنى طلبي المعنى، ففيه إنشاء الزجر فرعا عن الإخبار بالعقوبة.
والله أعلى وأعلم.