القرآن، واتساقه مع سائر النظم القرآني اتساقا عجيبا ورائعا، بينما نجد أن الشعر والنثر البشري على يحتوي على التشبيه البليغ أو الاستعارة الجيدة ولكن يوجد إلى جوارها التعبير الساقط، واللفظ المبتذل، وهذا ما أجهد الباقلاني نفسه طوال الكتاب لإثباته.
والباقلاني يستخدم مصطلح البديع بمفهومه العام الشامل الذي كان متعارفا عليه في عصره، فالبديع عنده يشمل كل المباحث والفنون البلاغية، أي: أنه يضم مباحث علوم البلاغة الثلاثة - التي لم تكن في عصره – قد تحددت وتمايزت واستقلت، وهي: البيان، والمعاني، والبديع. فهو مثلا يرى أن الاستعارة والتشبيه من البديع، وهما كما نعلم أصبحا – فيما بعد – من أهم مباحث علم البيان، وهو يعتبر المساواة وبعض صور الإطناب من البديع، ونحن نعلم أنهما أصبحا من موضوعات علم المعاني. وهو يعتبر أن مجموعة من الصور البديعية التي استقرت فيما بعد تحت عنوان البديع، مثل المطابقة والتجنيس، ورد الأعجاز على الصدور وغيرها.
وكما يرفض الباقلاني فكرة التوصل إلى إثبات إعجاز القرآن عن طريق ما فيه من بديع، فإنه يرفض أيضا فكرة التوصل إلى إثبات إعجاز القرآن عن طريق أقسام البلاغة العشرة التي حددها الرماني، حيث عقد فصلا بعنوان (فصل في وصف وجوه البلاغة) لخَّص فيه أقوال الرماني الذي يشير إليه – وإن كان لا يصرح باسمه – حيث يقول (ذكر بعض أهل الأدب والكلام أن البلاغة على عشرة أقسام).
وبعد أن ينتهي من تلخيص آراء الرماني حول هذه المباحث، يشير إلى أن البعض يرى أنه من الممكن التوصل إلى إعجاز القرآن من هذه الوجوه، بيد أنه يرفض هذا الرأي، ثم يقرر أن هذه الوجوه العشرة تنقسم إلى قسمين:
1 - قسم يمكن الوقوع عليه والتعمل له، ويُدرك بالتعلم، فما كان كذلك فلا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن به.
2 - أما القسم الثاني فهو: (ما لا سبيل إليه بالتعمل من البلاغات، فذلك هو الذي يدل على إعجازه.
ويضرب لذلك مثلا، بأننا لو قلنا: بأن ما في القرآن من تشبيه معجز في ذاته، فسوف يعترض علينا بما في الأشعار من تشبيهات رائعة، ويمثل لذلك بما في شعر ابن المعتز من تشبيه بديع يشبه السحر.
وينتهي الباقلاني من ذلك، إلى أن مثل هذه الوجوه البلاغة ليست معجزة في حد ذاتها، وإنما المعجز في هذه الوجوه هو أولا: حسنها البالغ وسموها، وثانيها: ارتباطها واتساقها مع بقية الكلام، على نحو بالغ الروعة والتكامل، بحيث لا يحس القارئ بأي قدر من التفاوت البلاغي، في هذا الكلام الرباني، الذي يضارع بعضه بعضا في البلاغة والفصاحة.
والباقلاني يحصر الوجه البلاغي للإعجاز القرآني (أي: بديع نظمه) في وجوه عشرة، بعضها يرجع إلى القرآن في جملته، وبعضها يرجع إلى بعض أساليبه، وبعضها يرجع إلى مفرداته، وبعضها يرجع إلى حروفه.
وإن كان لا يصنف هذه الوجوه العشرة على النحو التالي:
1 - فمما يرجع إلى جملته، كونه خارجًا عن المألوف من كلام البشر، والمعروف من تنظيم خطابهم، فليس هو بالشعر، ولا بالنثر، وليس هو بالسجع ... إلى آخر ما هو معروف للبشر من أجناس الكلام، وهو يبذل جهدا كبيرًا في محاولة إثبات مخالفة القرآن في جملته لجنس الكلام البشري.
ومما يرجع إلى جملته أيضا، أنه لم يعهد للعرب كلام يشتمل على ما في القرآن من فصاحة وبلاغة، ومعان في مثل طول القرآن، وإنما عرفت لهم مقطوعات نثرية قصيرة، وقصائد شعرية معدودة لم تخل من نقص وعيب.
ومما يرجع إلى جملته كذلك: أنه على تعدد أغراضه ومراميه من قصص ومواعظ وأحكام، وترغيب وترهيب، لا يتفاوت في بلاغته، فهو دائما على درجة واحدة من البلاغة السامية، بينما نجد أن الشعراء والأدباء المجيدين، إنما يجيدون في بعض الأغراض دون سواها، فالذي يجيد في المدح لا يجيد في الهجاء مثلا، والذي يبرع في الخطب لا يبرع في الحكم والأمثال، ونحو ذلك.
2 - وأما ما يرجع إلى أساليبه، فيذكر من ذلك أن القرآن الكريم، قد اشتمل على كل الأساليب البلاغية، التي تنبني عليها أجناس الكلام البشري، من إيجاز وإطناب، ومجاز وحقيقة، واستعارة وتصريح، كل ذلك مما يتجاوز حدود كلامهم، في الفصاحة والإبداع والبلاغة.
¥