انتهت المعركة بانتصار علي بن أبي طالب. ورجعت عائشة إلى المدينة مدحورة. ولكن المعركة الفكرية لم تنته بالرغم من ذلك. فقد بقى الناس يتجادلون ويتلاومون. ومما زاد في الطين بلة انتصار معاوية بعدئذ واستيلائه على الخلافة. وكان من سياسة معاوية أن ينتقص من شأن علي بن أبي طالب وأن يعلى من شأن عائشة.
صارت عائشة في نظر معاوية رمزاً يمثل المطالبة بدم عثمان. ودم عثمان_كما لايخفى_ هو الأساس الذي قامت عليه الدولة الأموية. ولهذا أخذت الدولة تقدس عائشة وتشجع الناس على تقديسها في كل سبيل. ففي الوقت الذي صار علي بن أبي طالب يشتم على المنابر، أصبحت عائشة سيدة نساء العالم، وتهافت الناس عليها ليسمعوا من فمها حديث زوجها رسول الله …
أهل البصرة:
وإذ نرجع إلى أهل البصرة نجدهم منقسمين إلى فريقين: عثمانيين وعلويين، والجدل بينهم قائم على قدم وساق. والظاهر أن البصرة فاقت بانقسامها هذا أي قطر آخر. ففيها وقعت معركة الجمل، ولابد أن يكون فيها أناس يذهبون مذهب عائشة في الحزن على عثمان، وآخرون يذهبون مذهب علي بن أبي طالب في الثورة على عثمان وعلى قومه من بني أمية.
أما الأمصار الإسلامية الأخرى فقد اتخذت في الأمر طريقاً واضحاً، إلى هذا الجانب أو ذاك، وقلما نجد فيها ما وجدنا في البصرة من انقسام مذهبي عنيف. وهذا الانقسام لابد أن يؤدي إلى الجدال في مفهوم الحق والباطل وفي المقاييس المنطقية التي تفرق بينهما.
ولا عجب بعد أن يظهر مذهب الاعتزال وعلم الكلام، ثم يترجم المنطق. في البصرة قبل غيرها من الأمصار الإسلامية.
النحو والمنطق:
في مثل هذا الجو المشحون بالجدل المنطقي نشأ النحو العربي. ومن الطبيعي اذن أن يتأثر النحو بالمنطق على وجه من الوجوه. ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد ان ابن المقفع الذي ترجم المنطق كان صديقاُ للخليل بن أحمد الفراهيدي. وكانت بينهما مودة وإعجاب متبادل. ولعل هذا من أسباب مارأينا في الخيل من ميل شديد للقياس حيث استخدمه في النحو استخداماً واسعاً.
ومهما يكن الحال فقد اشتهر نحاة البصرة بأنهم قياسون، إذ جعلوا للقياس المنطقي شأناً كبيراً في وضع قواعدهم، حتى أطلق عليهم لقب أهل المنطق. والمعروف عنهم انهم كانوا يضعون القواعد أولاً، ثم يختارون من الشواهد واللهجات ما يلائم تلك القواعد. فإذا اسمعوا اعرابياًَ ينطق بخلاف اقيستهم أهملوا كلامه وعدوه ملحوناً. أما إذا وجدوا الخلاف في القرآن أو في شاهد لايمكن تخطئته لجأوا إلى التأويل والتعليل.
يقول الأستاذ أحمد أمين عن نحاة البصرة: “فهم قد فضلوا القياس وأمنوا بسلطانه وجروا عليه وأهدروا ماعداه، وإذا رأوا لغتين: لغة تسير مع القياس، ولغة لاتسير عليه، فضلوا التي تسير عليه، وأضعفوا من قيمة غيرها. فهم في الواقع أرادوا أن ينظموا اللغة ولو بإهدار بعضها. وأرادوا أن يكون ماسمع من العرب مخالفاً لهذا التنظيم مسائل شخصية جزئية يتسامحون فيها نفسها ولا يتسامحون في مثلها والقياس عليها حتى لا تكثر فتفسد القواعد والتنظيم، هذا إذا لم يتمكنوا من أن يؤولوا الشاذ تأويلاً يتفق وقواعدهم ولو بنوع تكلف.
النحو في الكوفة:
بعد أن نشأ النحو في البصرة وترعرع، تناوله أهل الكوفة. وهناك ظهرت مدرسة في النحو لها طابع خاص. فقد أخذ نحاة الكوفة يعترضون على نحاة البصرة في إخضاع النحو للقياس، وصاروا يناقشونهم في ذلك نقاشاً عنيفاً أدى في بعض الأحيان إلى الخصومة وسفك الدماء.
يقول أهل الكوفة إن القضايا النحوية سبيلها السماع والاستقراء لا الإمعان المنطقي في القياس. فهم يريدون أن يخضعوا في أحكام النحو للذوق الطبيعي، ويطرحون ما يحول دون إحساسهم بالطبيعة اللغوية من أحكام عقلية وأقيسة منطقية.
إذا سمع الكوفيون من أحد الأعراب مثالاً شاذاَ أخذوا به، إذ هو يمثل في نظرهم لهجة بعينها وينبغي أن يحسب حسابها. فإهدار هذا المثال الشاذ إنما هو إهدار لجانب لغوي لا تتم الدراسة إلا به.
¥