ان مدرسة الكوفة كانت تجري في تطوير النحو على أساس الاحترام المتبادل التام لكل ما يصدر من بادية العرب، كأنها تحسب أهل البادية معصومين من الخطأ. أما مدرسة البصرة فكانت تنظر إلى أهل البادية نظرة التقاط واختيار، وهي لا تنزههم من الخطأ واللحن. وكانت تستخرج القواعد بالقياس على الأعم الأغلب من لغة الأعراب. فإذا وجدت فيه شذوذاً أهدرته ولم تقس عليه.
نتيجة النزاع:
أخذ النزاع بين أهل البصرة والكوفة يخمد تدريجياً بمرور الأيام. والظاهر ان المدرستين تداخلت إحداهما بالأخرى وامتزجتا، فأصبحتا مدرسة واحدة. وكان هذا من سوء حظ النحو العربي.
لقد كان الجدير بالنحاة المتأخرين أن يتبعوا إحدى المدرستين ويهملوا الأخرى. ولكننا رأيناهم يأخذون بآرائهما معاً ويعدون أساتذتهما أئمة في النحو بلا تفريق. فضيعوا على النحو بذلك فرصة كبيرة كان المفروض فيها أن تنقذ النحو من الورطة التي وقع فيها أخيراً.
صار النحاة من جهة يقلدون مدرسة الكوفة في عنايتها بكل ما يروى عن اعراب البادية، وصاروا من الجهة الأخرى يقلدون مدرسة البصرة في عنايتها بالقياس. انهم، بعبارة أخرى، أخذوا يهتمون بكل مايردهم من البادية من شواهد شاذة وغير شاذة، فيقيسون عليها. وبهذا صارت القواعد النحوية في وضعها النهائي معقدة ومتشبعة جداً، فابتعدت عما تقتضيه السليقة الفطرية من بساطة ووضوح.
والذي يدرس القواعد النحوية الموجودة بين أيدينا، دراسة موضوعية، يشعر بأنها قواعد اصطناعية غير طبيعية، وليس من المعقول أن يتكلم بها بشر على هذه الأرض.
انتفاضات نحوية:
لم يخل تاريخ النحو، على كل حال، من انتفاضات صغيرة تنهج نهج الكوفة في الاعتراض على استعمال القياس المنطقي في النحو.
يحدثنا أبو حيان التوحيدي في كتاب “المقابسات” عن بعض المناظرات التي كانت تعرض في القرن الرابع الهجري ويدور النقاش فيها حول المنطق والنحو. ونكاد نتلمح في ثنايا تلك المناظرات صراعاً فكرياً يشبه الصراع الذي نشب بين البصرة والكوفة قبل قرنين. فقد كان بعض المشتركين فيها يريدون أن يصبوا أساليب اللغة العربية في قوالب المنطق الإغريقي، بينما كان البعض الآخر يريد الاعتزاز بخصائص اللغة العربية ويستنكر إخضاعها لمنطق غريب عنها.
وفي المغرب، في عهد الموحدين، ظهر أعظم ثائر على النحو العربي، هو ابن مضاء القرطبي. وقد كتب هذا الرجل ثلاثة كتب هي: (1) المشرق في النحو، (2) تنزيه القرآن عما لا يليق بالبيان، (3) الرد على النحاة. وقد حاول بهذه الكتب أن يهدم نحو سيبويه وأقيسته.
والظنون أن هناك شبهاً كبيراً بين رأي مضاء ورأي الأستاذ ابراهيم مصطفى الذي أشرنا إليه في مقالة ماضية. ولكن رأي ابن مضاء لم يقدر له النجاح. فقد كان الناس مشغوفين بنحو سيبويه، فلم يستطع ابن مضاء أو غيره أن يثنيهم عنه.
ابن مالك:
وفي القرن السابع ظهر ابن مالك. وقد اشتهر هذا الرجل في النحو شهرة سيبويه، وإليه يرجع الفضل في تجميد النحو وصبه في قالبه الأخير. فقد نظم ابن مالك نحو سيبويه ووضحه وفصله وقربه إلى أذهان الناس.
ومن أعمال ابن مالك أنه نظم في النحو أرجوزة تبلغ ألف بيت، جمع فيها قواعد النحو. واشتهرت ألفية ابن مالك هذه شهرة واسعة ونالت حظوة كبيرة، حتى حفظها أكثر المتعلمين في الشرق والغرب، وصارت مرجعاً لطلاب النحو فيما يختلفون فيه، وكثرت عليها الشروح المستفيضة.
ولا تزال المدارس الدينية واللغوية حتى يومنا هذا تعتبر ألفية ابن مالك جزءاً مهماً من مناهجها الدراسية. يكفي الطالب أن يحفظ الألفية حتى يصغر خده للناس ويعد نفسه علامة في النحو. فلا يكاد يعترض معترض حتى يشهر عليه “العلامة” بيتاً من الألفية فيفخمه به.
كان النحاة قبل ظهور الألفية يستطيعون أن يبحثوا ويتجادلوا في بعض مبادئ النحو وقواعده، ولكنهم لم يكادوا يرون القواعد النحوية قد قيدت في أبيات من الشعر حتى رضخوا وسكنوا. واستطيع أن أعد ألفية ابن مالك بداية العهد الذي بدا فيه النحو العربي يدخل في طور الجمود.
الصيغة النهائية:
¥