أما النوع الثاني فهو: ما هو مقصودٌ بالحكم هو وما قبله؛ إذن النوع الثاني من النسق: أن يكون الأول مقصودًا والثاني مقصودًا كذلك، وبالمثال يتّضح الحال، حين تقول: جاءني زيد وعمرو، ماذا تقصد؟ تقصد أن زيدًا جاءك وعمرو ألا تقصد أنه جاءك أيضًا؟ الجواب: بلى؛ إذن "جاءني زيد وعمرو" مقصودٌ بالكم -أي المجيء- هذا هو الحكم، جاءني زيد وعمرو، فلقيتهما، ورحبتُ بهما، وقدمت لهم القرى، وأكلت معهما؛ إذن أنت أسندت إلى الرجلين الفعلَ الذي صدّرت به جملَتك وقلت: جاءني زيد وعمرو.
كذلك تقول: ما جاءني زيد ولا عمرو، نفيتَ المجيء عن زيد ونفيتَه عن عمرو، فالنسبة في المثالين نسبةُ إيجاب في الأول، ونسبة نفي في الثاني؛ إذن المقصود بالحكم التابع والمتبوع.
والنوع الثالث: ما هو مقصودٌ بالحكم دون ما قبله، يعني: كأنه البدل، تقول: جاءني زيد بل عمرو، وهذا النوع -كما قال الصبان- خارجٌ بقول النحاة: "بلا واسطة"، ما معنى هذا؟ معنى هذا أن هناك مقصودًا بالحكم بواسطة، وهناك مقصودًا بالحكم بلا واسطة، فالمقصود بالحكم بلا واسطة هو البدل، والمقصود بالحكم بواسطة حرف هو النسب، معنى ذلك أنّك حين تقول: جاءني زيد بل عمرو، ما المقصود بالحكم -أي ما المقصود بالمجيء هنا-؟ الجواب: أن المقصود بالحكم أو بالمجيء هو عمرو، هكذا بلا واسطة أم أن "بل" تقول لك: أنا الواسطة، وتقول لك: لولاي ما كان عمرو مرفوعًا ولا نسقًا ولا مقصودًا بالحكم، إنما قُصِدَ بالحكم بواسطتي، أنا التي صرفتُ النظرَ عن زيد وسلّطت الأضواء على عمرو، جاءني زيد "بل": معناه اصرف النظر، لم يأتِ زيد، ما جاء زيد وإنما عمرو.
وهذا النوع كما قال الصبان: "خارج بقول النحاة: بلا واسطة" أي أن المقصود بالحكم بلا واسطة هو البدل، وأن المقصود بواسطة "بل" هو النسق، فالفرق بين البدل وعطف النسق أن البدل هو المقصود بالحكم بلا واسطة، ولكن المقصود بالحكم في العطف يكون بواسطة حرف العطف الذي هو "بل" وكما قلنا: "بل" و"لكن" أختان.
ومن هنا يتّضح لنا أن اعتراض الرّضيّ على ابن الحاجب بمثال عطف النسق؛ إنما كان لأن ابن الحاجب لم يقل: "بلا واسطة".
هذه فكرة للمناقشة، وللعرض، وللتحليل، ولإبداء الرأي، ولإعادة النظر، ولفهم ما يقال، وهذا شأن الدراسات العليا.
إن ابن الحاجب قال: "المقصود بالنسبة دونه" لو أنه قال: لأنه المقصود بالنسبة دونه بلا واسطة؛ لما قال الرّضيّ شيئًا مما قال، لكنّ الرجل لم يذكرْ كلمة "واسطة" وإنما قال: "المقصود بالحكم دونه" فقال: وهذا لا يطّرد، على أيّ أساس اعترض الرّضيّ على ابن الحاجب؟ اعترض عليه لأنه أطلق الكلام ولم يذكر "بلا واسطة" ومعنى ذلك أنّه يرى أن البدل هو المقصود بالحكم دون التعرض لواسطة الحرف الذي يكون في النسق؛ ومن ثَمّ قال الرضي: "وهذا لا يطّرد" صحيح لا يطّرد، أنت يابن الحاجب ذكرتَ أن البدل مقصودٌ دون المبدل منه، ولم تقل: "بلا واسطة" أقول لك: وفي العطف يكون لدينا مقصود بالحكم، كالبدل، ولكن إذا قلت: "بلا واسطة" فقد أرحتنا، وجعلتَ الطريقَ سهلًا ميسّرًا، ولو أنه قال: "بلا واسطة" لأغناه ذلك عن اعتراض الرضي.
أقول: وكان على الرّضيّ -رحمه الله تعالى- ألّا يعترض بما اعترض به، إنما يكون اعتراضه وجيهًا مقبولًا لو أنه قال: كان على ابن الحاجب أن يقول: المقصود دونه بلا واسطة؛ لأن هناك ما هو مقصود بالحكم بواسطة حرف العطف مثل: جاءني زيد بل عمرو، ففي هذا المثال عمرو هو المقصود بالنسبة، أي هو المقصود بالمجيء، أما إذا قلنا: جاءني زيد عمرو، فعمرو بدلٌ مقصودٌ بالنسبة دون واسطة حرف العطف، ومعناه: أن المتحدِّث لمّا قال: "زيد" تدارك أنه أخطأ، فجاء بمن جاء -وهو عمرو- فإعرابه بدلٌ مقصودٌ بالنسبة دون واسطة.
أريد أن أقول لحضراتكم: كان ينبغي على ابن الحاجب أن يذكرها، فإن فاتته كان ينبغي على الرّضيّ أن يذكرها لتكون اعتراضًا وجيهًا، يقول: "لم يقل بلا واسطة" هذا يجعلك تردِّد ما قاله ابن مالك:
التابع بالمقصود بالحكم بلا واسطة هو المسمى بدلا
**********************
يقول مجاهد (رحمه الله): ما تردى حجر من رأس جبل , ولا تفجر نهر من حجر , ولا تشقق فخرج منه الماء إلا من خشية الله , نزل بذلك القرآن الكريم.
...
يقول الشعراوي: لا يقلق من كان له أب , فكيف بمن كان له رب.
قيل لأنوشروان: هل من أحد لا عيب فيه؟ قال: من لاموت له.