تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فظاهر هذه الآيات يدل على علوه تعالى، وارتفاعه فوق العرش، وهي ترد على المعطلين، ففي "إلي" الضمير يعود على الرب سبحانه وتعالى، إلا أن هذه القرينة قد أولت هي الأخرى والمراد بها: رافعك إلى رحمتي أو إلى حيث ملائكتي، وهناك من قال: "إذا قال" إن الله تعالى في السماء، يريد بذلك أنه فوقها من طريق الصفة لا من طريق الجهة (53) ومن ذلك ما روي في الخبر، أن جارية عرضت على رسول الله –صلى الله عليه وسلم –ممن أريد عتقها في الكفارة، فقال لها عليه الصلاة والسلام: "أين الله؟ فأشارت إلى السماء، فقال عليه السلام: اعتقها فإنها مؤمنة" (54).

ويفهم من هذا، تجوز الإشارة إلى العلو والرد على من نفاها وتأول، وفيه أيضاً جواز الاستفهام عن الله "بأين" التي تقتضي دلالتها تحديد الجهة في اللغة، إلا أن دلالة بعض الألفاظ في القرآن الكريم تنقل من المواضعة اللغوية إلى الاصطلاح الشرعي أو العقدي عن طريق التأويل، ويعتمد في النقل الدلالي للفظ على آليات تحويلية في النصوص ذاتها، وهي قائمة على علم البحث اللغوي ونظام الدلالة اللفظية من مجالها العرفي إلى مجالها الاستدلالي العقلي، أي أنها تحولت إلى نظام من العلامات غير اللغوية، فتحولت إلى علامات ودلالات معقولة، فكلمة "أين الله" مع استحالة كونه في مكان، فاستحالة المكان بالنسبة للفظ "أين" في حق الله يعتبر نقلاً من المواضعة إلى الاستدلال العقلي العقائدي وفي كلام العرب مما يقابلها أيضاً أنهم استعملوها عن مكان مسؤول عنه في غير هذا المعنى الأصلي توسعاً وتشبيهاً لها بما وضع لها، فيقولون: أين فلان من فلان؟ وليس يريدون الرتبة والمنزلة، وكذلك يقولون: لفلان عند فلان مكانة ومنزلة، ويريدون من ذلك المرتبة في التقريب والإكرام، ويقولون: فلان في السماء أي هو عظيم الشأن رفيع المقدار.

وتكون دلالة "أين" بهذا الاعتبار على المجاز، وقال الإمام أبو يحيى زكريا الأنصاري، في هذه الآية: "من في السماء": "إن قلت كيف" من في السماء" مع أنه تعالى ليس فيها ولا في غيرها بل هو تعالى وتنزه عن كل مكان؟! قلت: المعنى بملكوته في السماء، التي هي مسكن ملائكته، ومحل عرشه وكرسيه واللوح المحفوظ ومنه تنزل أقضيته وكتبه" (55)

وقال الصابوني معلقاً: "لله تعالى جهة العلو المطلق، فهو تعالى فوق عرشه وعرشه قد أحاط بالسماوات والأرض، وإذا كان الكرسي وهو أصغر من العرش، قد أحاط بالكون وبالسماء والأرض "وسع كرسيه السماوات والأرض" فكيف بالعرش؟! فنجنح في مثل هذا إلى التفويض والتسليم، كما هو مذهب السلف "لأن تحديد الجهة من صفات الأجسام وهي مستحيلة عليه تعالى، لأنه لو كان في مكان للزم أن يكون المكان أقوى منه، لأنه حامل له واللازم باطل، وعليه فإن دلالة "في" إما على المجاز وهو تأويل وإما اللجوء إلى التسليم والتفويض، إلا أن المجاز تعطيل لدلالة اللغة وخاصة إذا كان بدون قرينة تدل على ذلك، وعليه، فإننا نثبت له ما أثبته لنفسه تعالى دون تمثيل أو تكييف، وعليه لا ننكر قول من قال: إن الله في السماء لأن اللفظ جاء به الكتاب" (56).

فقد وصف نفسه سبحانه وتعالى، بأنه فوق كل شيء لا على معنى المسافة والمساحة، وذلك أن كل ما كان فوق شيء على معنى المساحة والتمكن فيه والعلو عليه، كان دونه شيء وهو ما عليه من المكان، فقد قال –صلى الله عليه وسلم -: "أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء"، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء ... " (57) وهذا الخبر يثبت تنزيهه تعالى عن المكان والزمان، ويفهم منه عدم إحاطة العقول بذاته الشريفة، لأنه يستحيل في حقه، وعليه يكون مذهب التفويض والتسليم اسلم والله أعلم.

ومن الظواهر اللغوية التي لها أثرها في التأويل ما يسمى "بحروف النسق" وأم هذا الباب "الواو" لكثرة مجالها فيه، وهي مشتركة في الإعراب والحكم ونعالجها كعلامة دلالية من خلال السياق الذي ترد فيه، كما أننا نريد أن نبين أثرها في التأويل عند علماء الكلام، وخاصة عند الأشعرية والمعتزلة، وذلك من خلال عرض مناقشة للمدرستين معتمدين في ذلك على بعض النصوص منها قوله تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلذِينَ يَعْملُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ، فَأُوْلئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير