و على هذا فإن أبا بكر لم يغضب لكونه شك في أمرهم أو رأى منهم ما يستنكر بل هم أبعد من ذلك بلا شك، و كذلك الصديق رضي الله عنه بعيد عن الظن بهم لأنه لم يعهد من أصحاب رسول الله إلا خيرا. و لذلك قال " لم أر إلا خيرا " أي لا أتهمها و لا أتهمهم، فما رأيت في هذا اللقاء إلا خيرا (30). و قال القرطبي: - لم أر إلا خيرا - يعني على الفريقين، فإنه علم أعيان الجميع، لأنهم كانوا من مسلمي بني هاشم. (31)
لكن أبا بكر كره ذلك بمقتضى الغيرة الجبليّة، و حينها توجه إلى رسول الله يبوح له بما قد لف صدره من الهم و الحزن - و هو خليله و رفيقه في حله و ترحاله - ليسمع منه ما يطيب خاطره و راجيا منه إرشاد الناس و نصحهم.
بادر الرسول صلى الله عليه و سلم بطمأنة أبي بكر، و بتخصيص أسماء بالشهادة بقوله: " إن الله قد برأها من ذلك " أي: من الشر و الفساد، أي بسبب شهادتك و انطباعك، أو قال ذلك بوحي نزل عليه. (32)
و فيه منقبة و فضيلة عظيمة لأسماء بنت عميس رضي الله عنها، و هذه نبذة يسيرة من سيرتها العطرة:
كانت من المهاجرات إلى أرض الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب. روت عن النبي صلى الله عليه و سلم و روى عنها ابنها عبد الله بن جعفر و حفيدها القاسم و غيرهما. و كان عمر يسألها عن تفسير المنام. و في الصحيح عن أسماء أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لها: " لكم هجرتان و للناس هجرة واحدة ". تزوجت من خليفتين هما أبو بكر، ثم بعد وفاته تزوجت من علي رضي الله عنهما.
قال الشعبي: تزوج علي أسماء بنت عميس فتفاخر ابناها محمد بن جعفر و محمد بن أبي بكر، فقال كل منهما: أنا أكرم منك و أبي خير من أبيك، فقال لها علي: اقضي بينهما، فقالت: ما رأيت شابا خيرا من جعفر، و لا كهلا خيرا من أبي بكر، فقال لها علي: فما أبقيت لنا. (33)
و مع تخصيص أسماء بالشهادة و الذكر، " لم يكتف بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى جمع الناس و صعد المنبر، فنهاهم عن ذلك و علمهم ما يجوز منه، فقال: " لا يدخلن رجل على مغيبة إلا و معه رجل أو اثنان " (34)
معنى قوله عليه الصلاة و السلام: " بعد يومي هذا " أي بعد لحظتي هذه. و ليس المراد إباحة الدخول بقية اليوم. (35)
اشترط النبي عليه الصلاة والسلام لدخول الرجل على المغيبة أن يصحبه رجل آخر معه لئلا تحصل الخلوة، و لدفع الريبة و التهمة عن نفسه.
أما اقتصار النبي عليه الصلاة و السلام على ذكر الرجل و الرجلين فلأجل صلاحية أولئك القوم، لأن التهمة كانت ترتفع بذلك القدر.
قال القاضي عياض: " فأما في الأزمنة الفاسدة فلا يجب أن يخلو بالمرأة لا واحد و لا أكثر للحقوق المظنة بهم، إلا أن يكون الجماعة الكثيرة أو يكون فيها قوم صالحون و من يعرف أنه لا يتواطأ على ريبة فتزول المظنة بحضوره ". (36) و بنحوه قال النووي و القرطبي.
ـــــــــــــــــــــ
حديث جابر" لا تلجوا على المغيبات، فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم " قلنا: و منك؟ قال " و مني، و لكن الله أعانني عليه فأسلم "
فيه زيادة لفظ: فإن الشيطان يجري ... الخ، و هو جزء من حديث صفية، و معناه كما ذكر ابن العربي:
1 - إن الشيطان يتضاءل حتى يصير من المقدار و اللطافة بحيث يتولج في العروق و يسري في الباطن سريان الدم.
2 - و قيل تسري آثاره و وساوسه
3 - و أما سريانه بذاته فيبين في القسم الجوازي إذا سلطه الله و مكنه. (37)
و لفظ عقبة، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: " إياكم و الدخول على النساء " فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله! أفرأيت الحمو؟ قال: " الحمو الموت "
فيه وعيد و تحذير من الدخول على النساء من غير محرم. و معنى قوله " الحمو الموت ":
- قال النووي: " أن الخوف منه أكثر من غيره، و الشر يتوقع منه، و الفتنة أكثر لتمكنه من الوصول إلى المرأة و الخلوة من غير أن ينكر عليه بخلاف الأجنبي. (38)
- و قال القرطبي: " أي دخوله على زوجة أخيه يشبه الموت في الاستقباح و المفسدة " ثم قال " أي لقاءه يفضي إلى الموت " (39)
سابعا: فوائد الحديث
حسن الظن بالمسلمين، و التماس العذر لهم، و المبادرة بإيضاح ذلك كما فعل الصديق رضي الله عنه.
امتثال الصحابة لأوامر الرسول عليه الصلاة و السلام.
¥