ويظهر من هذا أن القعنبي الحافظ أملى الحديث على الطلاب حفظًا، فلقّنه هذا الراوي - وهو متروك متّهم عند بعض الأئمة - زيادة (عن أنس)، فتلقّنها، فلما رجع إلى أصله لم يجد هذه الزيادة، فدعا عليه، فافتضح أمره.
وهذا يفيد أنه قد يكون في حفظ القعنبي لهذا الحديث خاصةً شيءٌ، ولذا رواه عنه محمد بن علي بن ميمون بهذه الزيادة، وقد يكون ابن ميمون حاضرًا إذ لُقِّن القعنبي الزيادة. إلا أن أصل القعنبي وكتابَهُ لا شك في أنه ليس فيه (عن أنس)، وأن الحديث فيه عن ثابت مرسلاً. فإعلال رواية القعنبي بهذا التلقين = خطأ، لأنه حَفِظَ الحديث حِفْظَ كتابٍ، وأتقنه وضبطه.
فالراجح عن القعنبي روايته الحديث مرسلاً.
# دراسة الراجح عن بشر بن السري:
قد رواه عن بشر: ابنُ أبي عمر العدني، وعنه اثنان: أبو حاتم الرازي، وأحمد بن نافع راوي المسند، وهذه الرواية فيها زيادة (عن أنس)، فجاء الحديث موصولاً.
وقد أعلَّ هذه الزيادة في هذه الرواية أبو حاتم الرازي، وهو راوي هذه الطريق، فهو أعلم بها من أيِّ أحدٍ آخر، ومهما قيل؛ فراوي الطريق أدرى بها وأخبر وأعرف.
فقال أبو حاتم - لما سأله ابنه عنها - (كما في العلل: 2/ 193، 194): «هذا خطأ ... »، ثم قال: «وكان بشر بن السري ثبتاً، فليته أن لا يكون أُدخِل على ابن أبي عمر»، يعني: أنه يشك في أن زيادة أنس في هذا الإسناد إنما أُدخلت على ابن أبي عمر، فدخلت عليه، واعتبرها ومشى عليها وروى الحديث كذلك، والسبب في ذلك - كما يقول أبو حاتم -: أن بشر بن السريِّ كان ثبتًا، ويبعد أن يخالف هذا الثبتُ ابنَ مسلمة القعنبيَّ الثبتَ أيضًا.
وابن أبي عمر العدني حافظ مصنِّف، إلا أن فيه غفلةً، ويظهر أن الأحاديث تُدخَلُ عليه من حيث لا يشعر، فيرويها كما أُدخلت عليه، ولهذا قال أبو حاتم فيه (الجرح والتعديل: 8/ 124): «كان رجلاً صالحًا، وكان به غفلة، ورأيت عنده حديثًا موضوعًا حدث به عن ابن عيينة. وهو صدوق»، ولهذا قال ابن حجر (التقريب: 6391): «صدوق»، والذي أُدخل عليه حديثٌ موضوع عن سفيان بن عيينة الإمام الثقة = لا يبعد أن تُدخَلَ عليه زيادةٌ في إسنادٍ عن حماد بن سلمة، فيرويَ الحديثَ بعد ذلك موصولاً وهو مرسل.
وهذا يُظهِرُ أن رواية بشر بن السري فيها شكٌّ، وإن لم نعتبره مرسِلاً للحديث (متابعًا للقعنبي)، فلن نعتبره - على الأقل - واصلاً له.
# دراسة الراجح عن حماد بن سلمة:
قد رواه عنه موصولاً:
- أبو داود الطيالسي، وأبو داود وإن كان ثقة، إلا أنه ذُكر أن له أغلاطًا، وأقرّ أحمد ذلك، وأشار بعض الأئمة إلى قلة أغلاطه، وذكر بعضهم أنها كثيرة، بل وبالغ بعضهم في شأن أغلاطه تلك، وأعدل ما قيل في ذلك قول ابن عدي: «وليس بعجب من يحدث بأربعين ألف حديث من حفظه أن يخطئ في أحاديث منها، يرفع أحاديث يوقفها غيره، ويوصل أحاديث يرسلها غيره، وإنما أتى ذلك من حفظه» (الكامل: 3/ 280)، ويظهَرُ نصُّ ابن عدي على أن لأبي داود أحاديث مرسلة يخطئ فيها فيصلها.
- ورواه مع أبي داود الطيالسي على الوصل: سهلُ بن حماد، أبو عتاب الدلال، وهو ليس في الثقة بذاك، بل هو صدوق، ووثقه بعض المتساهلين، والحق أنه دون ذلك.
- وذكر البيهقي والديلمي رواية عبيد الله بن موسى، ولم يُعرف سندها، فلا ندري صحتها من ضعفها.
- وسبق أن رواية بشر بن السري فيها شك، وأعلَّها إمام من أجلة الأئمة، وهو أحد رواتها.
وقابل هذا كله: روايةُ عبد الله بن مسلمة القعنبي عن حماد بن سلمة به مرسلاً، والقعنبي ثقة في أعلى مراتب التوثيق، قال فيه أبو حاتم - وهو من المتشددين جدًّا - (الجرح والتعديل: 5/ 181): «ثقة حجة»، ووثّقه الأئمة وأَعْلَوا قدرَهُ جدًّا - كما يظهر من ترجمته -.
ولنضع مرجحات كلِّ وجهٍ وما يعكر عليه في نقاط:
# مرجحات الوجه الأول (الموصول):
1 - اتفاق عددٍ من الرواة عليه.
2 - اتفاق بلاد هؤلاء الرواة وشيخهم حماد بن سلمة، وهي البصرة.
# ما يعكر على الوجه الأول:
1 - أن الاتفاق في حقيقته إنما هو بين أبي داود الطيالسي وسهل بن حماد، والأول له أغلاط ويصل المرسلات، والثاني صدوق لم يصل مرتبة الثقة. وأما رواية بشر بن السري ففيها نظر، ورواية عبيد الله بن موسى فليست مسندة لنعرف صحتها من ضعفها.
2 - أن رواية القعنبي - وهو الإمام الحافظ - مخالفة لهذا الوجه.
¥