فالذي يدل عليه كلام الإمام أحمد في هذا الباب: أن زيادة الثقة للفظةٍ في حديثٍ من بين الثقات إن لم يكن مبرزًا في الحفظ والتثبت على غيره ممن لم يذكر الزيادة ولم يتابع عليها= فلا يقبل تفرده، وإن كان ثقة مبرزًا في الحفظ على من لم يذكرها، ففيه عنه روايتان، لأنه قال مرة في زيادة مالك: " من المسلمين ": " كنت أتهيبه، حتى وجدته من حديث العمريين "، وقال مرة: " إذا انفرد مالك بحديث هو ثقة، وما قال أحد بالرأي أثبت منه "، وقال في حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر المرفوع: " من حلف فقال: إن شاء الله، فلا حنث عليه " =: " خالفه الناس: عبيد الله وغيره فوقفوه ".
وأما أصحابنا الفقهاء فذكروا في كتب أصول الفقه في هذه المسألة روايتين عن أحمد: بالقبول مطلقًا، وعدمه مطلقًا، ولم يذكروا نصًّا له بالقبول مطلقًا، مع أنهم رجحوا هذا القول، ولم يذكروا به نصًّا عن أحمد، وإنما اعتمدوا على كلام له لا يدل على ذلك، مثل قوله في فوات الحج جاء فيه روايتان إحداهما فيه زيادة دم، قال: " والزائد أولى أن يؤخذ به ".
وهذا ليس مما نحن فيه فإن مراده أن الصحابة روي عن بعضهم فيمن يفوته الحج أن عليه القضاء، وعن بعضهم: عليه القضاء مع الدم، فأخذ بقول من زاد الدم. فإذا روي حديثان مستقلان في حادثة في أحدهما زيادة، فإنها تقبل من الثقة، كما لو انفرد الثقة بأصل الحديث. وليس هذا من باب زيادة الثقة، ولا سيما إذا كان الحديثان موقوفين عن صحابيين، وإنما قد يكون أحيانًا من باب المطلق والمقيد.
وأما مسألة زيادة الثقة التي نتكلم فيها هاهنا فصورتها أن يروي جماعة حديثًا واحدًا بإسناد واحد ومتن واحد، فيزيد بعض الرواة فيه زيادة لم يذكرها بقية الرواة.
ومن الأصحاب من قال في هذه المسألة:
- إن تعدد المجلس الذي نقل فيه الحديث قُبلت الزيادة، وإن كان المجلس واحدًا وكان الذي ترك الزيادة جماعة لا يجوز عليهم الوهم لم تقبل الزيادة،
- وإن كان ناقل الزيادة جماعة كثيرة قبلت، وإن كان راوي الزيادة واحدًا والنقصان واحدًا قدم أشهرهما وأوثقهما في الحفظ والضبط،
- قالوا: وإن خالفت الزيادة ظاهر المزيد عليه لم تقبل، وحملوا كلام أحمد في حديث السعاية على ذلك،
وليس في كلام أحمد تعرض لشيء من هذا التفصيل، وإنما يدل كلامه على ما ذكرناه أولاً ... »،
إلى أن قال ابن رجب:
«وحكى أصحابنا الفقهاء عن أكثر الفقهاء والمتكلمين قبول الزيادة إذا كانت من ثقة ولم تخالف المزيد، وهو قول الشافعي، وعن أبي حنيفة أنها لا تقبل، وعن أصحاب مالك في ذلك وجهين. وفي حكاية ذلك عن الشافعي نظر، فإنه قال في الشاذ: هو أن يروي ما يخالف الثقات، وهذا يدل على أن الثقة إذا انفرد عن الثقات بشيء أنه يكون ما انفرد به عنهم شاذًّا غير مقبول، والله أعلم».
وقال ابن خزيمة - كما في القراءة خلف الإمام للبيهقي (ص138) والنكت لابن حجر (2/ 688، 689) -: «لسنا ندفع أن تكون الزيادة في الأخبار مقبولة من الحفاظ، ولكن إنما نقول: إذا تكافأت الرواة في الحفظ والإتقان والمعرفة بالأخبار، فزاد حافظ متقن عالم بالأخبار كلمةً؛ قبلت زيادته، لا أن الأخبار إذا تواردت بنقل أهل العدالة والحفظ والإتقان بخبر، فزاد راوٍ ليس مثلهم في الحفظ والإتقان زيادةً؛ أن تلك الزيادة تكون مقبولة»، ولفظ العبارة الأخيرة في النكت: «فإذا تواردت الأخبار، فزاد وليس مثلهم في الحفظ زيادة؛ لم تكن تلك الزيادة مقبولة».
فنفى ابن خزيمة قبول زيادة الثقة إذا لم يزدها غيره من الثقات ممن هو أوثق منه وأحفظ، ولم ينظر في قضية المنافاة، ولم يتطرق إلى اشتراطها في رد الزيادة. وانظر كلام البيهقي بعقب نقل كلامه.
وسئل الدارقطني - كما في سؤالات السلمي (ص360) - عن الحديث إذا اختلف فيه الثقات، مثل أن يروي الثوري حديثًا، ويخالفه فيه مالك، والطريق إلى كل واحد منهما صحيح؟
قال: «يُنظر ما اجتمع عليه ثقتان يُحكم بصحته، أو جاء بلفظة زائدة تثبت، تقبل تلك الزيادة من متقن، ويحكم لأكثرهم حفظًا وثبتًا على من دونه».
فذكر في كلامه قبولَ الزيادة بالنظر إلى عدد من زادها وإتقانه، وردَّها بالنظر إلى الأحفظ والأثبت.
¥