هذا التعريف ذكر نحوه الحافظ العراقي في التقييد والإيضاح، فقال بعد أن ذكر التعريف الأول: "وقد حده غير واحد من الحفاظ بما هو أخص من هذا، وهو أن يروي عمن قد سمع منه ما لم يسمعه منه من غير أن يذكر أنه سمعه منه، هكذا حده الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في جزء له في معرفة من يترك حديثه أو يقبل، وكذا حده الحافظ أبو الحسن بن محمد بن عبد الملك بن القطان في كتاب بيان الوهم والإيهام" [7].
وهذا التعريف هو الذي تبناه ونصره الحافظ ابن حجر، ونقله في النكت - تبعاً لشيخه الحافظ العراقي - عن الحافظ أبي بكر البزار وعن ابن القطان [8].
بل نقله في شرح النخبة عن الشافعي أيضاً، وقال بأن كلام الخطيب في الكفاية يقتضيه [9].
دلالة التعريف
وأما دلالة هذا التعريف فهو كسابقه إلا أنه مقتصر على الشق الثاني منه دون الأول، ومن ثم فإن دلالة هذا التعريف كدلالة الشق الثاني من التعريف الذي قبله.
وعليه فشرط التدليس على هذا التعريف أن يكون الانقطاع بين راويين قد ثبت لقاء أحدهما للآخر، ومن ثم فإن رواية غير المعاصر ورواية المعاصر غير الملاقي ومن باب أولى رواية من لم تثبت معاصرته أصلاً كرواية المجهولين ليست داخلة في مسمى التدليس على هذا التعريف.
فالفرق بين هذا التعريف للتدليس والذي قبله هو أن هذا التعريف يشترط ثبوت اللقاء لكي يكون الانقطاع تدليساً، بينما التعريف الأول لا يشترط ذلك.
الخلاصة
ويستخلص مما تقدم أن التدليس بناء على هذا التعريف يدخل في مسماه صورة واحدة، وهي رواية المعاصر الملاقي فقط، دون رواية غير المعاصر، ورواية المعاصر غير الملاقي.
الصواب من التعريفين
والصواب من التعريفين السابقين - فيما أرى - هو التعريف الأول، وذلك للأدلة التالية؛
الدليل الأول: أن المتتبع لأقوال الأئمة يجدها متظافرة على اعتبار رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه من التدليس، كروايته عمن لقيه، ومن أقوالهم ما يلي:
أ- قول يعقوب بن شيبة
قال يعقوب بن شيبة: "التدليس جماعة من المحدثين لا يرون به بأساً، وكرهه جماعة منهم، ونحن نكرهه، ومن رأى التدليس منهم فإنما يجوزه عن الرجل الذي قد سمع منه، ويسمع من غيره عنه ما لم يسمعه منه، فيدلسه، يُري أنه قد سمعه منه، ولا يكون ذلك أيضا عندهم إلا عن ثقة، فأما من دلس عن غير ثقة وعمن لم يسمع هو منه فقد جاوز حد التدليس الذي رخص فيه من رخص من العلماء" [10].
وكلام يعقوب بن شيبة هذا صريح في إدخال رواية المعاصر غير الملاقي في مسمى التدليس لأن يعقوب بن شيبة يتحدث عن التدليس الذي رخص فيه من رخص من أهل العلم، وأنه ما اشتمل على شرطين؛ أحدهما: ثقة الواسطة، والثاني: لقاء المدلس لمن دلس عنه، أي أن الراوي إذا دلس على قول من يرخص فيه فينبغي أن يكون تدليسه عمن سمع منه، وأن يكون الساقط ثقة.
ومفهوم المخالفة من كلامه هذا يدل على تسمية ما فقد أحد الشرطين تدليساً، لأنه قيد ما اشتمل على الشرطين بكونه التدليس الجائز، الذي ينبغي التقيد به على قول من رخص فيه، فما فقد أحدهما يسمى أيضاً تدليساً إلا أنه تدليس ليس بجائز.
هذا لو لم يصرح يعقوب بن شيبة بمفهوم المخالفة، فكيف وقد صرح بذلك المفهوم، الذي يقتضى دخول رواية الراوي عمن لم يسمع منه في مسمى التدليس، وذلك بقوله: "فأما من دلس عن غير ثقة وعمن لم يسمع هو منه فقد جاوز حد التدليس الذي رخص فيه من رخص من العلماء" [11].
ثم إن في كلام يعقوب بن شيبة دلالة أخرى، وهي أن تنصيصه على السماع في أول كلامه عن التدليس أعني قوله (عن الرجل الذي قد سمع منه) ليس المراد منه ثبوت كون المدلَّس عنه شيخاً للمدلس، بأن يكون السماع قد ثبت بينهما بوجود التصريح به في رواية ما، بل المراد من قول يعقوب هذا هو كون الظاهر من حال الرواية بينهما يفيد ذلك، بوجود ما يدل ظاهره على السماع، سواء كان ذلك بصيغة التحديث أو بصيغة العنعنة.
¥