والدليل على صحة هذه الدلالة من كلام يعقوب بن شيبة هو تسميته في آخر كلامه لراوية الراوي عمن لم يسمع منه تدليساً، ووجه الدلالة من ذلك هو أنه لا يمكن حمل قوله (عن الرجل الذي قد سمع منه) على وجود التصريح بالسماع، لأن ذلك يقتضي أن الإيهام إنما يوجد بين راويين قد وجد التصريح بالسماع بينهما، ولو مرة واحدة، وأنه لا إيهام في رواية منقطعة بين راويين لم يوجد بينهما تصريح بالسماع مطلقاً، ومن ثم لا تكون من باب التدليس، لأن ركن التدليس هو الإيهام فإذا لم يوجد الإيهام في الرواية المنقطعة لم يصح تسميتها تدليساً.
بينما قول يعقوب بن شيبة: (وعمن لم يسمع هو منه) لا شك أنه يقتضي عدم ثبوت تصريح بالسماع مطلقاً، أي أن الراوي التي قيلت فيه هذه العبارة لم يرو عمن روى عنه إلا بصيغة العنعنة، ومع ذلك فقد سمى يعقوب بن شيبة رواية الراوي عمن لم يسمع منه تدليساً.
ولا شك أن قوله هذا يدل على أن الرواية المنقطعة بين المتعاصرين يدخلها الإيهام، ولو لم يقع بينهما تصريح بالسماع مطلقاً، وذلك دليل على أن مراده بقوله الأول في بداية كلامه ليس ثبوت التصريح بالتحديث بينهما، وإنما هو وجود ما يدل بظاهره على السماع، سواء كان ذلك بالتحديث أو العنعنة أو غير ذلك.
ويؤيد فهم هذه الدلالة من قوله أن أصحاب التعريف الأول للتدليس عللوا كون رواية الراوي عمن لم يسمع منه تدليساً بأن في فعله إيهام كونه سمع ممن لم يسمع منه، وهذا يدل على أن العنعنة عندهم يدل ظاهرها على السماع، لأن قولهم (رواية الراوي عمن لم يسمع منه) تقتضي عدم وجود تصريح بالسماع بينهما مطلقاً.
وعليه يكون مقصودهم أن راوي الرواية المنقطعة قد أوهم بروايته المعنعنة السماع ممن لم يسمع منه، وكذلك مقصود يعقوب بن شيبة في قوله المتقدم، فكأنه قال: من روى عن معاصره بصيغة العنعنة فالمفترض أن تكون روايته متصلة، وأنه لا يجوز له التدليس فيها، ومن جوز التدليس ههنا فإنما يجوزه بشرطين، ثقة الواسطة ووجود السماع بين المدلس ومن دلس عنه في حقيقة الأمر.
وأما إن كانت حقيقة روايته هي أنه دلس عمن ليس بثقة ولو كان قد سمع ممن دلس عنه، أو كانت حقيقة روايته هي أنه دلس عمن لم يسمع منه فعلاً ولو كان الساقط ثقة فذلك الذي لم يرخص فيه أحد من أهل العلم، لأن الأول يوهم بروايته صحة الرواية عمن دلس عنه، والثاني يوهم بروايته صحة سماعه ممن دلس عنه.
ب- قول الحاكم
قال الحاكم في ذكره لأنواع التدليس: "والجنس السادس من التدليس قوم رووا عن شيوخ لم يروهم قط ولم يسمعوا منهم إنما قالوا قال فلان فحمل ذلك عنهم على السماع وليس عندهم عنهم سماع عال ولا نازل" [12].
وقول الحاكم هذا صريح في المسألة حيث سمى رواية الراوي عمن لم يره ولم يسمع منه تدليساً، وكذلك يدل أيضاً على أن المقصود بالسماع الذي يذكره بعض أهل العلم ما يدل ظاهره على السماع، لقوله فحمل ذلك عنهم على السماع.
ج- قول الخطيب البغدادي
قال الخطيب في بداية كتابه: "والْمُدَلَّسُ: رواية المحدث عمن عاصره ولم يلقه، فيتوهم أنه سمع منه، أو روايته عمن قد لقيه ما لم يسمعه منه، هذا هو التدليس في الإسناد" [13].
وهذا القول من الخطيب نص في المسألة أيضاً، حيث أدرج رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه في التدليس، وفيه أيضاً الدلالة التي ذكرتها عند التعليق على كلام يعقوب بن شيبة، وهي أن إدخاله رواية الراوي عمن لم يسمع منه في مسمى التدليس يقتضي كونها موهمة، وأن العنعنة محمولة في الظاهر على السماع.
د- قول الخطيب حكاية عن أهل العلم
لقد حكى الخطيب أقوال أهل العلم في حكم رواية المدلس، فذكر في المسالة أربعة أقوال؛ الأول: القبول مطلقاً، والثاني: الرد مطلقاً، والرابع: قبول خبره إذا صرح بالتحديث، والثالث وهو موضع الشاهد قوله: "وقال بعض أهل العلم: إذا دلس المحدث عمن لم يسمع منه ولم يلقه وكان ذلك الغالب على حديثه لم تقبل رواياته، وأما إذا كان تدليسه عمن قد لقيه وسمع منه فيدلس عنه رواية ما لم يسمعه منه فذلك مقبول، بشرط أن يكون الذي يدلس عنه ثقة" [14].
¥