تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وهذا يدل على أن ثمة شبه اتفاق من أهل العلم على إدخال رواية المعاصر عمن لم يلقه في مسمى التدليس، لأنه لو لم يكن التدليسان - أعني تدليس المعاصر عمن سمع منه وتدليس المعاصر عمن لم يسمع منه - داخلين في الأقوال الأخرى لما حسن ذكر قول المفرقين بينهما من ضمن تلك الأقوال.

هـ- قول أبي عمر بن عبد البر

لابن عبد البر في التدليس ثلاثة أقوال؛ قولان متقاربان في المعنى، وقول ثالث ظاهره يعارضهما إلا أنه - في الحقيقة - ليس كذلك.

فأما القولان المتقاربان في المعنى فأولهما قوله: "وأما التدليس فمعناه عند جماعة أهل العلم بالحديث أن يكون الرجل قد لقي شيخاً من شيوخه فسمع منه أحاديث لم يسمع غيرها منه، ثم أخبره بعض أصحابه ممن يثق به عن ذلك الشيخ بأحاديث غير تلك التي سمع منه، فيحدث بها عن الشيخ دون أن يذكر صاحبه الذي حدثه بها، ... ، وهو قد سمعه من رجل وثق به، عن الذي حمله عنه، وهذا أخف ما يكون في الذين لقي بعضهم بعضا، وأخذ بعضهم عن بعض، وإذا وقع ذلك فيمن لم يلقه فهو أقبح وأسمج" [15].

والثاني: قوله بعد ذلك حيث قال: "وجملة تلخيص القول في التدليس الذي أجازه من أجازة من العلماء بالحديث هو أن يحدث الرجل عن شيخ قد لقيه وسمع منه بما لم يسمع منه، وسمعه من غيره عنه، فيوهم أنه سمعه من شيخه ذلك، وإنما سمعه من غيره، أو من بعض أصحابه عنه، ولا يكون ذلك إلا عن ثقة، فإن دلس عن غير ثقة فهو تدليس مذموم عند جماعة أهل الحديث، وكذلك إن دلس عمن لم يسمع منه، فقد جاوز حد التدليس الذي رخص فيه من رخص العلماء، إلى ما ينكرونه ويذمونه ولا يحمدونه".

فهذان هما القولان المتقاربان في كلام ابن عبد البر، وقوله فيهما قريب من قول يعقوب بن شيبة، وكأنه مصدره، لأن ابن عبد البر يتحدث فيهما عن التدليس الجائز الذي يمكن قبوله، ولذلك شرط له فيهما الشرطين السابقين في كلام يعقوب بن شيبة، وهما ثقة الواسطة والسماع، أي أن التدليس إذا وقع من راوٍ فينبغي أن يكون الساقط من الرواية ثقة، وأن يكون ذلك الراوي المدلس قد لقي من دلس عنه، ولذلك بين بعد ذلك أن التدليس إذا وقع ممن لم يلق من حدث عنه فهو أقبح وأسمج، وقد جاوز حد التدليس الذي رخص فيه العلماء.

وتسميته ابن عبد البر في هذين القولين لرواية من لم يلق تدليساً فيها الدلالة عينها التي نبهت عليها من كلام يعقوب بن شيبة، وهي أن تقييده للتدليس في بداية كلامه باللقاء في قوله (قد لقي شيخاً من شيوخه فسمع منه أحاديث) وقوله: (عن شيخ قد لقيه وسمع منه) ليس المقصود منه وجود التصريح بالسماع بين الراوي وشيخه، وإنما المقصود منه وجود ما يدل ظاهره على السماع، سواء كان ذلك بصيغة التحديث أو بصيغة العنعنة.

وأما قوله الثالث، فهو قوله قبل القولين السابقين حيث قال: "وأما التدليس فهو أن يحدث الرجل عن الرجل قد لقيه وأدرك زمانه وأخذ عنه وسمع منه، وحدث عنه بما لم يسمعه منه، وإنما سمعه من غيره عنه، ممن ترضى حاله، أو لا ترضى، على أن الأغلب في ذلك أن لو كانت حاله مرضيه لذكره، وقد يكون لأنه استصغره، هذا هو التدليس عند جماعتهم، لا اختلاف بينهم في ذلك، وسنبين معنى التدليس بالأخبار عن العلماء في الباب بعد هذا إن شاء الله.

واختلفوا في حديث الرجل عمن لم يلقه، مثل مالك عن سعيد بن المسيب والثوري عن إبراهيم النخعي، وما أشبه هذا، فقالت فرقة: هذا تدليس لأنهما لو شاءا لسميا من حدثهما، كما فعلا في الكثير مما بلغهما عنهما، قالوا: وسكوت المحدث عن ذكر من حدثه مع علمه به دلسة، قال أبو عمر: فإن كان هذا تدليسا فما أعلم أحدا من العلماء سلم منه، في قديم الدهر ولا في حديثه، اللهم إلا شعبة بن الحجاج ويحيى بن سعيد القطان ... وقالت طائفة من أهل الحديث ليس ما ذكرنا يجرى عليه لقب التدليس، وإنما هو إرسال، قالوا وكما جاز أن يرسل سعيد عن النبي صلى الله عيه وسلم وعن أبي بكر وعمر وهو لم يسمع منهما ولم يسم أحد من أهل العلم ذلك تدليساً كذلك مالك عن سعيد بن المسيب" [16].

فهذا القول من ابن عبد البر قد يتمسك به من استحكم في نفسه القول باشتراط اللقاء في التدليس، ولا يتمعن في دلالته، ويجعل دلالته على ما ذهب إليه قطعية، والحقيقة خلاف ذلك.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير