تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وإنما يدعو مشترطَ اللقاء في التدليس إلى الاحتجاج بهذا القول أمران، يجعلانه في الحقيقة معذوراً في احتجاجه به، وذلك عند قطع النظر عن غيره من الأقوال، وعند عدم التمعن والتدقيق في دلالته، ولكن المنصف إذا دقق في المسألة وحاول الجمع بين الأقوال لم ير - في الحقيقة - في ذينك الأمرين إلا ما يؤيد عدم اشتراط اللقاء، أو على الأقل لم ير دلالة هذا القول على اشتراط اللقاء دلالة ظاهرة.

أما الأمر الأول فهو تنصيصه في قوله هذا على وجود السماع وتأكيده لذلك بألفاظ مترادفة حيث قال: (قد لقيه وأدرك زمانه وأخذ عنه وسمع منه).

والجواب عن ذلك هو أن ابن عبد البر لم يرد في الحقيقة ثبوت التصريح بالسماع وإنما أراد تأكيد ما ينبغي أن يكون عند تدليس المدلس، وهو وجود السماع في الحقيقة بين المدلس والمدلس عنه، لأن المدلس إذا لم يكن في الحقيقة قد لقي شيخه الذي دلس عنه كان ذلك الفعل منه من أقبح ما يكون وأسمجه، لأنه بذلك يوهم أمراً غير مقبول إيهامه، وهو أنه مع إيهامه السماع لحديث لم يسمعه يوهم مطلق السماع الذي يثبت العلو له دون غيره ممن لم يسمع من ذلك الشيخ، والحقيقة على خلاف ذلك.

وأما الأمر الثاني فهو ما ذكره من الاختلاف في حديث الراوي عمن لم يلقه، فإن الناظر في هذا القول مع التنصيص على السماع المشار إليه في الأمر الأول قد يظن أن ابن عبد البر يفرق بين التدليس والإرسال باشتراط اللقي في الأول دون الثاني، وهو في الحقيقة عين ما أراده ابن عبد البر، إلا أنه لا يخالف قوليه السابقين، وذلك لأن الإرسال الذي أراده ابن عبد البر هنا ليس هو الإرسال الخفي، وإنما أراد ههنا الإرسال الجلي، الذي لا يخفى على عامة أهل الحديث.

وتنصيصه على اللقي الذي ذكره ليس المراد منه كونه شرطاً في تعريف التدليس، وأن ما لم يكن فيه لقي ليس بتدليس، وإنما المراد منه وجود ما ظاهره يدل على اللقي، وما ينبغي أن يكون عليه التدليس، وإنما كرر تلك الألفاظ لتوضيح الفرق بينه وبين الإرسال الجلي الذي وقع الخلاف في تسميته تدليساً، ولذلك عطف على اللقي إدراك الزمان مع أنه معلوم من اللقي، وذلك لتأكيد أن الإرسال الجلي واضح فيه عدم السماع وعدم الإدراك وعدم الأخذ وعدم اللقي، فلا إيهام فيه بخلاف التدليس.

والذي يدل على أن ابن عبد البر إنما أراد في قوله هذا المفارقة بين التدليس والإرسال الجلي ثلاثة أمور؛

1 - الأول: كلامه المتقدم ذكره في تسمية رواية الراوي عمن لم يلقه تدليساً.

2 - والثاني: الأسانيد التي ذكرها أمثلة على قوله (لم يلقه)، فإن عامة رواة الحديث لا يجهلون انقطاع تلك الأسانيد، لعدم وجود المعاصرة أصلاً بين رواتها، ولذلك عقب على خلاف من جعله من قبيل التدليس بكونه لا يعلم أحداً سلم منه.

3 - والثالث: تشبيهه لهذا الانقطاع برواية سعيد بن المسيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والذي يدل على أن ابن عبد البر لم يرد بقوله (لقيه وأدرك زمانه ... ) وجود التصريح بالسماع لأنه أمكن إدخال عدم اللقاء في مسمى التدليس مع وجود مثل هذه العبارة في القولين السابقين، وهذا يدل على أن هذه العبارة مجملة، وأن المراد باللقاء والسماع الذي ذكره أولاً ليس وجود التصريح بالسماع، وإنما هو وجود ما يدل بظاهره على ذلك، ومن ثم يكون تدليس الراوي عمن لم يلقه إذا كان ما رواه موهما لقاءه إياه داخلاً على قوله هذا في مسمى التدليس، ولا يكون ذكره اللقاء والسماع في أول قوله مفهماً عدم الدخول.

الدليل الثاني: أن المتتبع لصنيع أهل العلم يجدهم يدخلون رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه في مسمى التدليس، وقد أفاض في ذلك الشريف حاتم العوني في كتابه المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس، ومن تطبيق الأئمة العملي في هذا الصدد ما يلي؛

أ - قال عباس الدوري: "سمعت يحيى يقول: لم يلق يحيى بن أبي كثير زيد ابن سلام، وقدم معاوية بن سلام عليهم فلم يسمع يحيى بن أبي كثير، أخذ كتابه عن أخيه، ولم يسمعه، فدلسه عنه" [17].

ب - قال البخاري: "لا أعرف لسعيد بن أبي عروبة سماعاً من الأعمش وهو يدلس ويروي عنه" [18].

ج - قال ابن أبي حاتم: "سمعت أبي يقول: لم يسمع الأعمش من أبي صالح مولى أم هانىء، قيل له: إن ابن أبي طيبة يحدث عن الأعمش يحدث عن أبي صالح مولى أم هانىء، فقال: هذا هو مدلس عن الكلبي" [19].

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير