تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

بل كان ينبغي على ما ذكره الشريف أن يذكر الخطيب في هذه المفارقة بين التدليس والإرسال صورة رواية غير المعاصر، إذ هي التي يجعلها الخطيب على رأي الشريف الفارق بين التدليس والإرسال، فكان حق الكلام أن يقول لأن رواية المرسل لا توهم المعاصرة، بخلاف رواية المدلس فإنها توهم لقاء من لم يلق وسماع ما لم يسمع.

وعليه فإن النفي لوجود الإيهام في المرسل وعدم نفيه في المدلس إنما هو لأن الإرسال والتدليس وصفان مبنيان على وجود القرائن التي تقتضي وجود الإيهام وعدم وجوده، فلا توصف الرواية بكونها إرسالاً لا تدليساً إلا إذا توفرت القرائن الدالة على عدم إرادة الإيهام أو وجوده، ولا توصف الرواية بالتدليس إلا لوجود تلكم القرائن، وهذه مسألة في غاية من الدقة سيأتي مزيد بيان لها، وهي تدل في نفس الوقت على دقة هذا العلم ودقة أهله المعتنين به.

5 - أن الخطيب قد جعل التدليس متضمناً للإرسال، أي أن كل تدليس يمكن وصفه بكونه إرسالاً، لدلالته على الانقطاع، ولكنه لم يجعل الإرسال متضمنا للتدليس، فلا يجوز وصف الإرسال بالتدليس عند الخطيب، فما كان إرسالاً لا يجوز وصفه بكونه تدليساً، وذلك لأن الإرسال لا إيهام فيه مطلقاً، فالوصف بالإرسال مقتضٍ عدم الإيهام، وهو مقتضٍ عدم الوصف بالتدليس، ولذلك ذكر الخطيب في أول كلامه بأن الراوي لو بين أنه لم يسمع (فكشف ذلك لصار ببيانه مرسلاً للحديث، غير مدلس فيه).

فقوله (غير مدلس فيه) نفي لوجود التدليس فيما أطلق عليه بأنه إرسال، وذلك لأن الإرسال لا يقتضي الإيهام بخلاف التدليس، هذا هو معنى قول الخطيب بأن التدليس يتضمن الإرسال ولا عكس.

أما الشريف العوني - حفظه الله - فقد فسر قول الخطيب هذا على أنه من باب الخصوص والعموم، فكل تدليس إرسال، وليس كل إرسال تدليساً، وهذا يعني أن بعض الإرسال تدليس، والحقيقة أنه ليس شيء من الإرسال بتدليس، لأن دلالة التدليس على الإرسال التي ذكرها الخطيب هي من قبيل دلالة التضمن المعروفة في علم الأصول، وهي دلالة اللفظ على جزء مسماه كدلالة البيت على الجدار، فالبيت مشتمل على الجدار وغيره، وليس الجدار مشتملاً على البيت وإنما هو جزء منه، فإذا ذكر البيت دل على الجدار، ولكن إذا ذكر الجدار لم يدل على بيت، وهكذا التدليس والإرسال، إذا ذكر التدليس دل على الإرسال، ولكن إذا ذكر الإرسال لم يدل على التدليس.

وهذا في الحقيقة خلاف ما عناه العوني من تفسيره لكلام الخطيب، لأن العوني يرى أن التفريق بين التدليس والإرسال من جهة اختلاف الصور، وأن الإرسال مخصوص برواية غير المعاصر، والتدليس مخصوص برواية المعاصر، إلا أنه يرى هذا الأخير إرسالاً أيضاً، ولكنه لا يتصور عنده انفكاك رواية المعاصر عن الوصف بالتدليس، فما من رواية منقطعة عن معاصر إلا ويلزم وصفها بالتدليس، وهذا خلاف ما يراه الخطيب من جواز وصف رواية المعاصر بكونها تدليساً متضمنا للإرسال تارة، وبكونها إرسالاً لا تدليس فيه تارة أخرى.

التفسير الصواب لكلام الخطيب

تبين مما تقدم أهم معالم كلام الخطيب غير أني أود تلخيص مراد الخطيب وإن كنت سأحتاج إلى مزيد شرح لقوله فيما سيأتي لكن أهم نقطة اشتمل عليها كلام الخطيب أن الصور الداخلة في التدليس قد تكون إرسالاً لا تدليس فيه بمجرد بيان الراوي أنه لم يسمع الحديث ممن روى عنه، وهذا استدلال منه بأن العمدة في التفريق هو على إيهام الراوي وعدم إيهامه في الصور نفسها التي يشترك فيها التدليس والإرسال، وهذا دليل على أن الفارق بينهما ليس سببه اختلافهما في الصور، وإنما سببه عائد إلى صنيع الراوي نفسه، فإن كان صنيعه يقتضي الإيهام كان تدليساً، وإلا كان إرسالاً فحسب، وبمعنى آخر إن كان قد قصد الإيهام فهو مدلس وإلا فلا.

وسيأتي بإذن الله ذكر الدلائل على أن الفارق بين التدليس والإرسال هو تقصد الراوي للإيهام وعدم تقصده، كما ستأتي الإشارة بإذن الله إلى كيفية معرفة النقاد أن الراوي قد تقصد الإيهام أو لم يتقصده، وأن ذلك ليس من علم الغيب، والله الهادي إلى صراط مستقيم.


¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير