قد يقول قائل بأن قول الشريف العوني هذا لا يخالف ما عليه أهل العلم، لأنه يطلق على رواية المعاصر الملاقي وعلى رواية المعاصر غير الملاقي اسم التدليس والإرسال في آنٍ واحدٍ، وهذا هو الذي تقتضيه أقوال النقاد وصنيعهم، وهذا صحيح إلا أن للشريف العوني - حفظه الله - ههنا مخالفة جوهرية لما عليه أهل العلم، وهي أنه وإن كان يجعل الصورتين السابقين من صور التدليس والإرسال معاً إلا أنه لا يرى فرقاً بين إطلاق التدليس وإطلاق الإرسال على هذه الصور، لأن إطلاق الإرسال عليها من بعض الأئمة لا يقتضي عنده عدم إطلاق اسم التدليس عليها، فوصف تلك الصور بالتدليس أمرٌ لازمٌ عنده لا مناص عنه، وراوي ذلك مدلس على كل حال، سواء أطلق على روايته الإرسال أم لا.
والحقيقة أن أقوال النقاد وعملهم على خلاف ذلك، فقد يصفون الرواية بالتدليس، وقد يصفون نظيرتها في الصورة بالإرسال دون التدليس، والأدلة على ذلك أكثر من أن تدفع، وسوف تأتي الإشارة إلى ذلك عند ذكر الأدلة على أن الفرق بين التدليس والإرسال هو تقصد الإيهام.
وأما قول الشريف هذا فإنه وإن لم يصرح به إلا أن الدلائل على قوله به كثيرة جداً، لولا خشية إطالة البحث دون الحاجة الماسة إلى ذلك، إضافة إلى ضيق الوقت لسردت جملة من الدلائل على قوله بذلك، غير أن المتنبه لأقواله التي ترد معنا سيتضح له تبنيه لهذا القول، ومع ذلك فلن أخلي البحث من شيء يشير إلى هذا المعنى، ومن ذلك؛
أولاً: قوله بعد عرضه لمصطلح الإرسال الخفي في كتب المصطلح حيث قال: "لا وجود لمصطلح باسم الإرسال الخفي!!! هذا هو القول الصحيح، ولست أرضى وصفه بأنه الراجح ... وهو فصل الخطاب في مسألة التفريق بين التدليس و (رواية المعاصر عمن لم يلقه: الإرسال الخفي)، فلا (إرسال خفياً) أصلاً، حتى نسمي به (رواية المعاصر عمن لم يلقه) لنفارقها عن (التدليس)!! ".
مع قوله في آخر المبحث الأول من كتابه المرسل الخفي: "وإلى هنا أكون - والحمد لله - قد رصدت كل ما وقفت عليه من أقوال تطبيقية، وتصرفات عملية، لأئمة القرون الأولى، مما يبين علاقة ما يسميه المتأخرون الإرسال الخفي بالتدليس، وهل بينهما فرق أم لا فرق بينهما" [3].
فإن هذين القولين في الحقيقة كالتصريح بنفي أن توصف رواية المعاصر عمن لم يلقه بالإرسال دون التدليس، لأنه قيد عدم وجود الإرسال الخفي أصلاً بإرادة المفارقة بينه وبين التدليس، فكأنه يقول إذا كان المرسل الخفي غير التدليس فلا وجود له لأن الراوية التي توصف بالإرسال الخفي هي في الحقيقة التدليس، وأما إذا كان المراد منه التدليس نفسه فلا فرق بينهما حينئذٍ، ومن ثم فلا داعي لجعله اصطلاحاً خاصاً بصورة معينة.
ثم إن تنظيره لإثبات أن الإرسال الخفي ليس مصطلحاً عند أهل العلم لكون الصورة التي خصص لها عند المتأخرين تعتبر تدليساً يقتضي أنه يرى التدليس وصفاً لازما لرواية المعاصر غير الملاقي، ولو لم يكن ذلك لازما عنده لما كان في تسمية رواية المعاصر غير الملاقي بل والمعاصر الملاقي ما لم يسمعه إرسالاً خفياً في بعض الأحيان لا تدليساً أيُّ إشكال، حتى يوجب عند الشريف كل هذا التنظير والتنقيب والبحث والتعقيب.
ثانياً: إطلاقه على رواية المعاصر عمن لم يلقه اسم التدليس دائماً، ثم استشكاله بعد ذلك نفي بعض الأئمة التدليس عن مثل تلك الصورة، كاستشكاله مثلاً لنفي أبي حاتم التدليس عن أبي قلابة حين سأله ابنه فقال: "أبو قلابة عن معاذة أحب إليك أو قتادة عن معاذة؟ فقال: جميعا ثقتان، وأبو قلابة لا يعرف له تدليس" [4]، مع أن أبا حاتم قد ذكر في موضع آخر رواية أبي قلابة عمن لم يسمع منه، حين قال: "قد أدرك أبو قلابة النعمان بن بشير ولا أعلم سمع منه" [5].
فلولا أن الشريف العوني يرى لزوم وصف رواية المعاصر عمن لم يسمع منه بالتدليس أمراً لازما لما استشكل نفي أبي حاتم التدليس عن أبي قلابة مع إثباته لرواية أبي قلابة ممن لم يسمع منه، لإمكان حمل رواية أبي قلابة عن النعمان على الإرسال دون التدليس لو كان لا يقول بذلك اللزوم.
ولذلك أجاب عن هذا الاستشكال وهو استدلال في الحقيقة لابن حجر بأن نفي أبي حاتم التدليس يحتمل أحد أمرين؛
¥