الدليل الأول: تنصيص جماعة من العلماء على أن القصد معتبر في التدليس، وهم:
1 - أبو الحسين بن القطان الشافعي، ت (359) [1].
فقد قال بعد أن ذكر كراهة التدليس: "وجملته أن المحدث إن قصد بقوله عن فلان إيهام أنه سمع منه فهو غش، وإن كان على طريق الفتوى كقصة أبي هريرة في الجنب يصوم فإن ذلك لا يضره، ... ، ومن عرف بالتدليس لا يقبل منه حرف حتى يبين سماعه" [2].
2 - أبو بكر الجصاص الفقيه الحنفي، وكان من أصحاب الحديث، ت (370) [3].
فقد تحدث عن التدليس ثم قال: "وليس [4] كل من أسقط من بينه وبين من روى عنه رجلا مدلسا, لأن الصحابة قد رووا عن النبي عليه السلام كثيرا من الأحاديث التي لم يسمعوها، وحذفوا ذكر من بينهم وبين النبي عليه السلام, واقتصروا على أن قالوا: قال النبي عليه السلام، وكذلك التابعون, ولا يسمون مدلسين من وجهين؛
أحدهما: أنهم إنما قصدوا الاختصار, وتقريب الإسناد على السامعين منهم.
الآخر: أنهم أرادوا بالإسناد تأكيد الحديث, والقطع على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه قاله, ولم يقصدوا التزين بعلو الإسناد.
وكذلك نقول فيمن بعدهم, من قصد منهم بحذف الرجل الذي بينه وبين المروي عنه أحد هذين الوجهين، فإنا لا نسميه مدلسا, وإنما المدلس من يقصد بحذف الرجل الذي سمعه التزين بعلو السند, ونحو ذلك، وهذا القصد غير محمود" [5].
3 - أبو عبد الله الحاكم النيسابوري أحد أئمة الصنعة الحديثية ت (405).
فقد تحدث عن ذم التدليس، وذكر بعض من عرفوا به ثم قال: "ففي هذه [6] الأئمة المذكورين بالتدليس من التابعين جماعة، وأتباعهم، غير أني لم أذكرهم، فإن غرضهم من ذكر الرواية أن يدعو إلى الله عز وجل فكانوا يقولون قال فلان لبعض الصحابة فأما غير التابعين فأغراضهم فيه مختلفة" [7].
ووجه الدلالة من قول الحاكم ظاهر، وهو تصريحه بكون المانع من ذكره لبعض الأئمة في المدلسين مع أن صورة ما فعلوه هو التدليس كونهم لم يكن قصدهم إلا الدعوة إلى الله، ولو علم منهم تقصد الإيهام لذكرهم، مما يدل على اعتبار القصد عنده في مسمى التدليس.
4 - الخطيب البغدادي إمام الصناعة الحديثية، ت (463)
فقد ذكر ما يستعمله المحدثون من ألفاظ التحديث وذكر مراتبها، فذكر أن أرفعها سمعت ثم حدثنا ثم أنبأنا ثم أخبرنا ثم قال: "وقد قال بعض أهل العلم بالعربية: هذه الألفاظ الثلاثة بمنزلة واحدة في المعنى، وقال غيره: حدثنا ونبأنا أدخل إلى السلامة من التدليس من أخبرنا، وإنما استعمل من استعمل أخبرنا ورعا ونزاهة، لأمانتهم فلم يجعلوها للينها بمنزلة حدثنا ونبأنا، وإن كانت نبأنا تحتمل ما تحتمله حدثنا وأخبرنا، وبالجملة فان النية هي الفارقة بين ذلك على الحقيقة" [8].
ووجه الدلالة من قول الخطيب أنه جعل النية هي الفارقة بين مراتب هذه الألفاظ، فمن علم من نيته أنه يستعمل شيئاً من هذه الألفاظ في التدليس كان ذلك اللفظ الذي يستعمله على ذلك الوجه أقل مرتبة من اللفظ الذي لا يستعمله كذلك، هذا ما ظهر لي من معنى كلام الخطيب هذا، وهو دليل على اعتبار تقصد الإيهام في التدليس عند الخطيب.
ويؤيد هذا الفهم الذي ذكرته في معنى كلام الخطيب المتقدم أنه نقل عن بعض أهل العلم في موضع آخر بأن القارئ على الشيخ لا يجوز له أن يقول حدثني ولا أخبرني، ثم ذكر بأنه الصحيح، ثم قال: "وليس ببعيد عندنا جواز ذلك، لمن علم حاله أنه لا يقصد إيهام سماع لفظه، وإخباره، وحديثه، من لفظه، وأنه إنما يستعمل ذلك على معنى أنه قرئ عليه وهو يسمع، وأنه أقر به، أو سكت عنه سكوت مقر به، إذا كان ثقة عدلا، لا يقصد التمويه والإلباس، فأما إن عرف بقصد ذلك لم يقبل حديثه، ولم يسغ له ذلك" [9].
وفي هذا القول دلالة واضحة على اعتبار تقصد الإيهام في التدليس، حيث لم يجوز للمحدث أن يقول فيما قرأه على شيخه حدثني ولا أخبرني، إذا كان يقصد إيهام السماع من لفظ الشيخ، بينما أجاز له أن يقول ذلك إذا لم يقصد التمويه.
وشاهدي من هذا النقل أن الخطيب قد جعل قصد الإيهام سبباً لعدم جواز لفظ من ألفاظ التحمل التي لا يترتب عليها في الحقيقة انقطاع أصلاً، لكون ذلك اللفظ مع قصد الإيهام نوعاً من التدليس، وإلا لما كان لمنع الخطيب إياه أي وجه حينئذٍ.
¥