لكن هذه العربية التي تكلموا بها لا يلزم أن تتفق مع اللغة المعيارية التي بين يديك اليوم، إذ قد تختلف في طريقة تصريف الكلمة وغيرها، لكن أصل الكلمات واحد لا يتغير.
وقد أخبر ابن عباس أن نوحًا كان بعد آدم بعشرة قرون، قال: ((كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين)).
ونوح كان قبل إبراهيم بقرون، فالعربية متقدمة جدًّا في الزمن، ولم تظهر بعدُ ما تُسمى باللغة العبرية التي يعتمدها التوراتيون وبعض المستشرقين.
2 ـ قال تعالى: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ [الأعراف: 73،74]، وقوم ثمود لا خلاف في عروبتهم، واسم نبيهم واضح العروبة، وهو من مادة (صلح)، وكذا اسم القبيلة من مادة (ثمد) والثمد: الماء القليل.
3 ـ مدين قوم شعيب:
ولا خلاف في عروبتهم، ولا زال اسم مدين في شمال جزيرة العرب شاهدًا إلى اليوم، مما يدل على عروبته، واسم (شعيب) واضح العروبة، وهو من مادة شعب؛ خلافًا لما ورد في كتاب (تاريخ القرآن): ((يدعى قوم شعيب (الذي لم يتضح بعد شأن اسمه بما فيه الكفاية)، وقد سبق أن أطلق على هذه الجماعة الاسم العربي الأصيل (الأيكة) هنا باسم مدين، وهو اسم وصل إلى محمد صلى الله عليه وسلم بالتأكيد عن طريق اليهود ... )).
وهذه الشعوب وأنبياؤها كانوا في جزيرة العرب ـ على خلاف في موطن نوح وقومه ـ وما ذكرته لك ـ مع قِلَّتِه ـ شاهد على اتصال لغة العرب المعيارية بهذه اللغات التي كانت قبلها، وأنها ما زالت تحتفظ بالاشتقاق من هذه اللغات القديمة، وأنت على خُبر بما كان بين نوح وآدم من الزمن، وهو عشرة قرون، فانظر إلى أي زمن ارتقت لغة العرب من جهة الزمان.
وإذا كانت هذه اللغة التي تكلم بها عرب الجزيرة ترقى إلى هذا الزمان، فما علاقة هؤلاء الأقوام المذكورين بهم؟
إن المؤرخين ـ كما سبق ـ يثبتون خمس هجرات عربية كبرى خرجت من جزيرة العرب، آخرها هجرة الصحابة رضي الله عنهم لدعوة الناس، وهذه الأقوام المهاجرة ستكون لغتها العربية؛ بدلالة ما ذكرت لك من إشارات في لغة هؤلاء الأنبياء القدماء، الذين سبقوا بعض هذه الهجرات الكبرى.
ولقد كانت الهجرة إلى أرض العراق والشام ومصر ـ وهي مناطق الصراع الحضاري ـ منذ القِدم. ولما استقرت هذه الأقوام في هذه المناطق تكونت لها لهجاتها الخاصة كما هو الحاصل اليوم بين العرب، ولم تمنعهم هذه اللهجات من أن تكون بينهم لغة مشتركة يتفاهمون بها، ويفهم بعضهم لهجة غيره كما هو الحاصل اليوم، والله أعلم.
ولقد استمر الوضع في هذه المنطقة بعد هؤلاء الأنبياء، فأبو الأنبياء إبراهيم عاش في هذه المنطقة في وقت كانت فيه قبائل عربية تحكمها، وإن كانوا يسمونها بالآشورية، فإنها عربية الأصل، ولاشك أن لغتها كانت عربية، ومما يستأنس به في هذا المقام أن زوج إبراهيم عليه السلام الثانية من مصر كان اسمها (هاجر)، وهو اسم عربي، صريح في العربية، وكذا اسم زوجه الأولى (سارة)، وكذا اسم ابنيه كما سيأتي في تحليلهما.
وإذا نزلت إلى زمن موسى وجدت اسم امرأة فرعون آسية بنت مزاحم، وهذا اسم عربي صريح، بل في كتب المؤرخين العرب أن اسم فرعون: الوليد بن الريان، أو مصعب بن الوليد، وهذه أسماء عربية صريحة.
وإذا وصلت إلى اسم سليمان لم تُخطئك عربيته، وأنه مأخوذ من مادة (سلم)، ولعلك تذكر قوله تعالى: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [النمل: 30]، وهذه التسمية بعينها هي من بقايا النبوات التي ظهرت في ديننا، وبقيت إلى يومنا هذا؛ مما يدلك على عمق العربية في هذه الأزمان.
وإذا وصلت إلى عيسى عليه السلام وجدت المؤرخين متفقين على أن لغته كانت آرامية، وإنما هي ـ في حقيقتها ـ لهجة من لهجات العرب القديمة، ولعلك لا تخطئ اسم ابن خالته (يحيى) الذي لم يسمَّ أحد قبله بهذا الاسم، وهو صريح عريق في العربية.
إن مما قد يخفى على بعضنا تلك السمة البارزة (الاشتقاق)، التي جعلها الله للغة الأولى التي أنتجت هذه اللهجات المتعددة عبر القرون المتوالية حتى وصل الأمر إلى لغة عرب الجزيرة، فنزل القرآن على بعض لهجاتهم، فصارت تنتشر، وتنحصر غيرها من اللهجات، ثم آل الأمر إلى جعلها اللغة المعيارية التي يقيسون غيرها بها، وظهر الفصيح والأفصح، والقليل، والشاذ، وغيرها من المعلومات التي تدل على وَجْد المقايسة بين لهجتين، والمتوقع أن الحال لو استمر لاستمرت لغة الاشتقاق في تطورها في محيطه، وهي كذلك اليوم، لكنا نقيس ما خرج من لهجات بهذه اللغة المعيارية التي ثبتت عندها لغة العرب بسبب نزول القرآن بها ...
لقراءة البحث بكامله انظروا في المرفقات من فضلكم ..