كأنك ترى الشيخ حين يحدثك ينظر أمامه إلى الأرض، وكأنه يقرأ من كتاب، فينساب حديثه دون تكلّف ..
حين كتبت هذا المقال عدت إلى كتاب تاريخ الأدب العربي للمرحوم الدكتور " عمر فرّوخ " فاستخرجت هذه الأبيات لابن مكانس المصري هذا:
هل من فتىً ظريفِ مُعاشر لطيف
يسمع مِن مقالي ما يُرخِص اللآلي
اسلُك مع الناس الأدب تجد من الدهر العجبْ
لا تُغضِب الجليسا لا توحِشِ الأنيسا
لا تصحَب الخسيسا لا تُسخِط الرئيسا
فهاكَها وصيّه تصحَبها التحية
تحمِلها الكرامُ إلَيْك،، والسلامُ
يمتاز الشيخ الطنطاوي بالفكاهة والمرح وسرعة البديهة، أخبرته بقصة أخينا محمد الأصفر مع محدثه الجني، ثم سألته: أكنت تعلم أنك أستاذ الثّقلين؟ قال بسرعة وذكاء: كنت أعلم أنني أستاذ هذا الإنسي، وأشار إلى الأخ مجد، وأنا الآن أشعر بوجودك معنا .. فضحكنا جميعاً.
لم يكن معي شيء من شعري، فأنا لا أحفظ منه إلا القليل، إنّ ذاكرتي ضعيفة وأنا في عهد الشباب، فماذا أقول فيها وقد تجاوزت الستين؟! وسألته أيقرض الشعر؟ قال: لا ولكنني أحفظ منه الكثير، وحدثنا أنه في بداية خمسينات القرن الماضي التقط ورقة ممزقة من صحيفة ملقاة على الأرض فيها شعر فحفظه على التوّ، وأسمعناه فكان قدر ثلاث صفحات!! وكان قصةَ حبيبين تزوّجا بعد عناء، وكان عرسهما في الشتاء، وموقد الفحم في غرفتهما ينفث سًمّ ثاني أكسيد الكربون، فغرقا في بحرين، أولهما الحب وثانيهما الاختناق بهذا الغاز، ولم يحس الأبوان بذلك إلا بعد ساعات، وكان صباح هذه الليلة مأتماً.
وحدّثنا ومضات زمنية وإشعاعات فكرية. ذكرتني بقول الأستاذ عبد الفتاح أبي غدة - رحمه الله - فيه: " محمد سعيد الطنطاوي من رجال القرن الثاني أو الثالث الهجريين، مضى أقرانُه ونسُوه. ".
أخذنا الحديث فسمعنا المؤذن يصدح معلناً دخول المغرب، فصرفَنا من بيته بالتي هي أحسن أو بأختها، فلا بد من وضوئه بعد كل أذان، وهناك شابان يطرقان بابه فيأخذانه للصلاة في المسجد لكل فريضة. فاستصغرت نفسي، وتذكرت أننا – وأقصد الكثير من الناس – يستسهلون الصلاة في البيت، ولا يصلون في المساجد إلا قليلاً.
أمام باب العمارة توقفت سيارة نزل منها شابان في العشرينات، فقال الأخ مجد: هذان من يحمل الشيخ إلى المسجد دائماً .. سلمنا عليهما، فردّا السلام بوجه باشّ، وابتسامة حلوة، فدعونا لهما، ولوالديهما اللذين ربياهما على عون المسنّ وغوث الملهوف ... كما تدين تُدان. أليس هذا صحيحاً؟؟