وحيث أن التطمين يأتي أولا فإن آية الكرسي التي جاءت بعد الأمر بالإنفاق يجب أن تكون متضمنة ذلك التطمين، قال تعالى: الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، فكأن الله يقول ياعبدي أنفق أنفق عليك، فإن كان الذي يمددك بالمال من أهل الأغيار تخاف أن يغير رأيه فيقطع عنك الإمداد فأنا الله لا تتناولني الأغيار ولا إله يمنعني من إمدادك فاطمئن، وإن كان الذي يمددك بالمال تخاف أن ينقطع عنك مدده بموته فأنا الحي الذي لا يموت، وإن كنت تخاف ألا يدري من يمددك بالمال بحاجتك فأنا قيوم، وقد يغفل عنك من يمددك بحاجياتك لانشغاله عنك بأمور أخرى، أما الله فلا تأخذه سنة ولا نوم ولا يشغله شأن عن شأن، له ما في السموات والأرض وعلى الله تدبير أمر كل شيء في ملكه ورزق كل دابة.
من ذا الذي يشفع عند إلا بإذنه تناسب قول الله في الآية السابقة: (من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة). إذا كان الشفيع يأتي كوكيل عن المشفوع له يلتمس له العفو ويقدم أدلة غابت عن علم الله من شأنها إيجاد عذر للمشفوع له فذلك محال على الله، لأن الله له الكمال المطلق في العلم يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم.
بما أن الكافر هو الذي استيقن الهدى الذي يستوجب الشكر ولم يؤمن به،والظالم هو الذي عرف الحق واستيقنه واختار اتباع الباطل عن علم أنه باطل، فإن البشر الذي علمهم الله العلم الذي أدركوا به أن الله عزيز حكيم إن لم يبين الله لهم بينة الإسلام وتستيقنها أنفسهم فلن تكون بذلك حجة عليهم أنهم كافرين ظالمين، إذن سيقيم الله عليهم الحجة فيستيقنها الناس جميعا ومن جحدها وكفر بها فهو كافر ظالم، إذن سيحيطون بعلم تلك البينة= (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) هذه البينة العظمى هي التي أعطت آية الكرسي تلك المكانة والعظمة، والأشياء تقاس عظمتها بوظائفها ومهماتها، ومهمة الآية هي توصيل اليقين إلى أذهان الناس أنها من عند الله. وإذا جاء اليقين امتنع الإكراه، لأن الإكراه إنما يكون لمن ليس عنده علم ويقين بالحق، فإذا جاء اليقين تبين الرشد من الغي فلا داعي للإكراه، قد تكره ابنك على الذهاب إلى المدرسة لتحصيل العلم لأنه ليس عنده إدراك بفضل العلم، وحينما يكبر ويصير له إدراك يتبين له الرشد من الغي ويعلم عندئذ أنك كنت على حق في إكراهك له عل التعليم.
إذن مجيء قول الله (لا إكراه في الدين) بعد آية الكرسي يدل أن اليقين موجود في الآية التي جاءت قبل (لا إكراه في الدين).نحن المسلمون نعمل بقول الله (لا إكراه في الدين) لأننا تبين لنا الرشد من الغي منذ عهد النبوة، أما من يسلم من أهل الكتاب فإنه لا شك يحب أن يهتدي أقاربه أيضا إلى الإسلام، إذن فإكراهه في الدين لمن له ولاية عليه أمر محمود إن كان المكره (بفتح الراء) لم يتبين له الرشد من الغي.
(لا إكراه في الدين) هنا (مطلقة) مما يعني أن الرشد سيتبين للجميع.
هكذا نعلم أن آية الكرسي هي آعظم آية في القرآن لأنها تتضمن تصريحا بالبينة العظمى.
وإذا جاءت البينة العظمى فسوف يستيقنها الناس جميعا ومتى تم ذلك فإن الاختبار قادم لا محاله، وإنما الامتحان يأتي بعد فهم الدرس جيدا، وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون، ستكون فتنة عظمى تناسب الآية العظمى، إنها فتنة الطاغوت الذي سيخرج أولياءه الذين كفروا بالله من النور إلى الظلمات، أما أولياء الله
الذين آمنوا يخرجهم الله من الظلمات إلى النور لأنهم استمسكوا بالعروة الوتقى ولن تغريهم خيوط العنكبوت التي استمسك بها الكافرون.
والسؤال الذي يأتي إلى بالنا هو: ما هي تلك الآية البينة التي سيستيقنها الناس جميعا؟
وكيف سيكون رد فعل الناس بعد تبين اليقين؟
هذين السؤالين يجيبنا عليهما القرآن.
أما البينة فإن فيها من اليقين ما هو أعظم من آية إحياء الموتى ولذلك يضرب الله لنا ثلاثة أمثلة من إحياء الموتى، وتلك الأمثلة الثلاثة هي الجواب على رد فعل الناس عند مجيء اليقين.
ففي قوله تعالى: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي (يحيي ويميت) ...... ).
¥