بل ههنا سر آخر هو فوق الكل، وهو أنا لما رجعنا إلى الفطرة السليمة والعقل الأول وجدنا أن ما استوى الوجود والعدم بالنسبة إليه؛ لا يترجح أحدهما على الآخر إلا لمرجح، وهذا يقتضي الجبر، ونجد أيضاً تفرقة بديهيةً بين الحركات الاختيارية والحركات الاضطرارية وجزماً بديهياً بحسن المدح وقبح الذم والأمر والنهي، وذلك يقتضي مذهب المعتزلة، فكأن هذه المسألة وقعت في حيّز التعارض بحسب العلوم الضرورية، وبحسب العلوم النظرية، وبحسب تعظيم الله تعالى نظراً إلى قدرته وحكمته، وبحسب التوحيد والتنزيه وبحسب الدلائل السمعية، فلهذه المآخذ التي شرحناها والأسرار التي كشفنا عن حقائقها صعبت المسألة وغمضت وعظمت، فنسأل الله العظيم أن يوفقنا للحق وأن يختم عاقبتنا بالخير آمين رب العالمين. اهـ.
وقال في موضعٍ آخر؛ يستدلّ فيه لمذهب الجبر، وذلك عند تفسيره قول الله تعالى: {لا نبدّل لكلماته}:
"والوجه الرابع: أن يكون المراد أن أحكام الله تعالى لا تقبل التبديل والزوال، لأنها أزلية والأزلي لا يزول، واعلم أن هذا الوجه أحد الأصول القوية في إثبات الجبر، لأنه تعالى لما حكم على زيد بالسّعادة وعلى عمرو بالشقاوة، ثم قال: {لا مبدل لكلماته} يلزم امتناع أن ينقلب السعيد شقياً وأن ينقلب الشقي سعيداً، فالسعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه".اهـ.
وفي موضع آخر كذلك يقول:
"إذا ثبت هذا فنقول: ظهر أن حصول هذه النفرة والعداوة في القلب ليس باختيار العبد، وثبت أنه متى حصلت هذه النفرة والعداوة في القلب، فإن الإنسان لا يمكنه مع تلك النفرة الراسخة والعداوة الشديدة تحصيل الفهم والعلم، وإذا ثبت هذا ثبت القول بالجبر لزوماً لا محيص عنه. اهـ.
ثم أردفه بكلامٍ منقول عن عليٍّ رضي الله عنه:
"ونقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب خطبة في تقرير هذا المعنى، وهو في غاية الحسن"، إلى أن قال:
" ... وإذا وقف الإنسان على هذه الحالة علم أنه لا خلاص من الاعتراف بالجبر، وذكر الشيخ الغزالي رحمه الله في كتاب "الأحياء" فصلا في تقرير مذهب الجبر".اهـ.
ثم إنه رحمه الله قد مال أكثر وأكثر من ذلك، بل لعلّه تعدّى المعتمد عند الأشاعرة من القول بالكسب، وذلك عند استطراده في ذكر الخلاف بينه وبين المعتزلة عند تفسيره الاستعاذة، فقال:
"فإن قال قائل: هذه الإشكالات إنما تلزم على قول من يقول بالجبر، وأنا لا أقول بالجبر ولا بالقدر؛ بل أقول: الحق حالةٌ متوسطة بين الجبر والقدر، وهو الكسب.
فنقول: هذا ضعيف؛ لأنه إما أن يكون لقدرة العبد أثرٌ في الفعل على سبيل الاستقلال أو لا يكون فإن كان الأول؛ فهو تمام القول بالاعتزال وإن كان الثاني فهو الجبر المحض، والسؤالات المذكورة واردة على هذا القول فكيف يعقل حصول الواسطة".اهـ.
وقال بعد الانتهاء من مناظرة المعتزلة على الوجه المشار إليه: "واعلم أن هذه المناظرة تدل على أنه لا حقيقة لقوله: {أعوذ بالله} إلا أن ينكشف للعبد أن الكل من الله وبالله".اهـ.
ثمّ أتبع ذلك بما ينقض كلام المعتزلة من مسألتي العلم والداعي، اللتين سبق التنبيه عليهما.
هذا ما تراءى لي في نسبة "الإمام الرازي" إلى الجبر في هذه المسألة، وعليه كنتُ قد نسبته إليه كما في الكلام الأول، فإن أصبت، وإلّا فأستغفر الله.
وأعود إلى شكركم مرّةً أخرى، فجزاكم الله خيراً، وقد سررتُ بالتواصل معكم.
ـ[الخطيب]ــــــــ[28 May 2009, 05:13 م]ـ
الأخ الشيخ رأفت حفظه الله
شكر الله لكم ما تفضلتم به لكن الرازي لا يتبنى مذهب الجبر نعم قد تلتقي مصلحتا الأشاعرة والجبرية في مواجهة الاعتزال في مسألة خلق الأفعال فيظن أن الرازي متبن لمذهب الجبر ومن هنا يأتي اللبس
أخي الحبيب، لقد أحسنت حين قلت:
فلا بدّ من بيان الآتي فيما يخصّ مسألتنا – مع مراعاة حرصي على عدم تغيير مسار الموضوع عمّا أراده أخونا الشيخ المنصور حفظه الله
وحين قلت:
هذا ما تراءى لي في نسبة "الإمام الرازي" إلى الجبر في هذه المسألة، وعليه كنتُ قد نسبته إليه كما في الكلام الأول، فإن أصبت، وإلّا فأستغفر الله
وهذا سمت العلماء فجزاكم الله خيرا
وسأبادر - كما ذكرتمونا حفظكم الله - إلى مصطلح يذكره المفسرون حتى لا نخرج عن أصل الموضوع المطروح هو مصطلح الفذلكة:
والفذلكة مأخوذة من قولهم: " فذلك كذا " ثم كُوِّن منهما كلمة واحدة بما يشبه النحت في النسب كالبسملة، والحوقلة، والسبحلة ...
والمراد بها في إطلاق العلماء إجمال ما فصل أولاً.
وقد يراد بها النتيجة لما سبق من الكلام والتفريع عليه كقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (البقرة: 194) قال البيضاوي عند تفسيرها: وهو فذلكة التقرير.
*ومن الفذلكة ما يعرف بفذلكة الحساب ويعنى بها مجمل تفاصيل الحساب ومنه قوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (البقرة: 196) بعد قوله {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} (البقرة: 196)
ومما اعتبر فذلكة لما سبقه قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ ... } (البقرة: 285) نقل ذلك عن الزجاج كما في تفسير القاسمي.
وقال الآلوسي عند تفسيره لقول الله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار التى وَقُودُهَا الناس والحجارة}: هو فذلكة لما تقدم، ولذا أتى بالفاء. أي: إذا بذلتم في السعي غاية المجهود، وجاوزتم في الحد كل حد معهود، متشبثين بالذيول، راكبين متن كل صعب وذلول، وعجزتم عن الإتيان بمثله، وما يداينه في أسلوبه وفضله، ظهر أنه معجز، والتصديق به لازم فآمنوا واتقوا النار.
وهذا المصطلح يتردد بكثرة في تفسير كل من: الآلوسي، البقاعي، البيضاوي، الزمخشري، أبي السعود، ابن عاشور، وغيرهم.
¥