ومثل هذا لا إشكال فيه عندما يتعلق معنى الترجي فيها بالمخاطبين تماما كما ذكرنا في "لعل" لكن الإشكال في نسبة الترجي إلى الله تعالى من خلال "عسى" كما عرفناه من خلال "لعل" فأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي وغيرهما عن ابن عباس قال: كل عسى في القرآن فهي واجبة. وقال الشافعي: يقال عسى من الله واجبة. وقال ابن الأنباري: عسى في القرآن واجبة إلا في موضعين. أحدهما – {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} (الإسراء:8) يعني بني النضير فما رحمهم الله بل قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوقع عليهم العقوبة.
والثاني – {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا} (التحريم:5) فلم يقع التبديل.
ومعنى كونها واجبة أي محققة الوقوع لا للتوقع كما هو الحال في كلام البشر.
وجعل بعض العلماء هذا المعنى قاعدة عامة لـ "عسى" إذا تعلقت بـ "الله" عز وجل كما قال السيوطي في الإتقان: وأبطلوا استثناء هاتين الآيتين لأن الرحمة – في الآية الأولى- كانت مشروطة بأن لا يعودوا كما قال: {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} وقد عادوا فوجب عليهم العذاب. والتبديل – في الآية الثانية- كان مشروطاً بأن يُطلِّق ولم يُطلِّق فلا يجب.
وقد أجمل صاحب البرهان القول في "عسى، ولعل" معًا من هذه الوجهة التي نتكلم عنها فقال:
"عسى، ولعل" من الله تعالى واجبتان، وان كانتا رجاء وطمعا في كلام المخلوقين، لان الخلق هم الذين يعرض لهم الشكوك والظنون، والبارئ منزه عن ذلك.
والوجه في استعمال هذه الالفاظ أن الأمور الممكنة لما كان الخلق يشكون فيها، ولا يقطعون على الكائن منها، وكان الله يعلم الكائن منها على الصحة، صارت لها نسبتان:
1 - نسبة إلى الله تعالى تسمى نسبة قطع ويقين.
2 - ونسبة إلى المخلوق وتسمى نسبة شك وظن.
فصارت هذه الالفاظ لذلك ترد تارة بلفظ القطع بحسب ما هي عليه عند الله كقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (المائدة:54) وتارة بلفظ الشك بحسب ماهي عليه عند المخلوقين كقوله: {فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ} (المائدة:52) وقوله: {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} (الإسراء:79) وقوله: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه:44) وقد علم الله حين ارسلهما ما يفضى إليه حال فرعون لكن ورد اللفظ بصورة ما يختلج في نفس موسى وهارون من الرجاء والطمع فكأنه قال: انهضا لا إليه وقولا في نفوسكما لعله يتذكر أو يخشى.
ولما كان القرآن قد نزل بلغة العرب جاء على مذاهبهم في ذلك، والعرب قد تخرج الكلام المتيقن في صورة المشكوك لأغراض: فتقول لا تتعرض لما يسخطني فلعلك إن تفعل ذلك ستندم. وانما مراده أنه يندم لا محالة ولكنه اخرجه مخرج الشك تحرير للمعنى ومبالغة فيه.
أي أن هذا الامر لو كان مشكوكا فيه لم يجب أن تتعرض له فكيف وهو كائن لا شك فيه. أ. هـ
ومن المواضع الرائعة التي خرّجت "عسى" المعنى فيها على صورة الشك مع أنه لا شك فيه قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (التوبة:18) ففيه كما قال أبو السعود: إبرازُ اهتدائِهم مع ما بهم من الصفات السنيةِ في معرِض التوقعِ لقطع أطماعِ الكفرةِ عن الوصول إلى مواقف الاهتداء والانتفاعِ بأعمالهم التي يحسَبون أنهم في ذلك محسنون، ولتوبيخهم بقطعهم بأنهم مهتدون، فإن المؤمنين مع ما بهم من هذه الكمالاتِ، إذا كان أمرُهم دائراً بين لعل وعسى، فما بالُ الكفرة وهم هُمْ، وأعمالهم أعمالُهم.
وفيه لطفٌ للمؤمنين وترغيبٌ لهم في ترجيح جانبِ الخوفِ على جانب الرجاءِ ورفض الاغترار بالله تعالى.
بارك الله فيك شيخنا الفاضل
وعندي رأي في الترجي عندما يكون من الله تعالى، وهو: أن الترجي يكون من الله تعالى، ولا داعي لنفيه أو تأويله، ومن قال بأن الترجي يستلزم الجهل بالعاقبة، وهذا لا يليق بالله تعالى؛ فلا يقبل قوله لأنه مبني على مساواة ما يوصف به الله تعالى، وما يضاف إليه بما يوصف به المخلوق، وما يضاف إليه؛ وهذا مما قرر أهل السنة بطلانه، والقاعدة في مثل هذا أنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
ومن العبارات المحررة في ذلك ما قاله الدكتور محمد مصطفى على مصطفى في تفسيره لسورة الرعد ص51،حيث قال مفسراً لـ"لعل" التي تفيد الرجاء: (ترجية من الله واقعة لكماله،والترجية من غيره متوقعة لعجزه.) وهذا هو معنى قول من قال: لعل من الله واجب.
وقد ذكر الرازي في تفسيره [25/ 160 - 161] أن لعل في كلام الله تحمل على الترجي من المتكلم، وأنه لا يلزم من كونها للرجاء ما قد يتوهم من جهل المتكلم وعدم علمه. وذكر الطاهر ابن عاشور كلاماً قريباً مما ذكره الرازي كما في تفسيره التحرير والتنوير 1/ 330.
وعليه؛ فإن من أسباب وقوع الخطأ في تفسير كلام الله تعالى: المساواة بين صفاته تعالى وصفات المخلوقين، أو بين ما يُخبر به عنه سبحانه وبين ما يُخبر به عن غيره. وهذا من أكبر أسباب وقوع الخطأ في تفسير كلام الله تعالى، وخاصة في تفاسير المبتدعة لآيات الصفات. والقاعدة في هذا الباب:أن أسماء الله وصفاته وما يخبر به عنه تليق بكماله تعالى وعظمته وجلاله، وأسماء المخلوقين وصفاتهم وما يخبر به عنهم تليق بعجزهم وضعفهم، وتناسب حالهم.
¥