وعلى التسليم بأن الحديث قد جاء هكذا عن النبي صلى الله عليه وسلم بتقديم الطلوع على الثلاث؛ فإنه لا يدل على تقدم الطلوع؛ لأن تقديمها في الذكر لا يقتضي تقدمها في الوقوع، كما أن العطف لا يفيد الترتيب (74)، ولاحتمال أن يكون قدم الطلوع؛ لأن مدار عدم قبول التوبة متوقف عليه. (75)
ومما يؤكد أن الترتيب غير مراد في الحديث: ذكر الدجال بين الطلوع والدابة، وقد جاء في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن طلوع الشمس وخروج الدابة قريبان من بعضهما، ونص الحديث «وَأَيُّهُمَا مَا كَانَتْ قَبْلَ صَاحِبَتِهَا فَالْأُخْرَى عَلَى إِثْرِهَا قَرِيبًا». (76)، وقد تقدم أن مدة مكث الدجال إلى أن يقتله ابن مريم تعتبر طويلة، وهذا دليل واضح بأن طلوع الشمس ليس بأول الثلاث، والله تعالى أعلم.
الإيراد الثالث:
إذا كانت التوبة لا تنقطع إلا بطلوع الشمس من مغربها، فما فائدة ذكر الدجال والدابة في الحديث؟
والجواب: أن ذكرهما هو بمثابة التحذير والإعلام بقرب طلوع الشمس من مغربها، فكأن خروجهما إرهاصاً وإيذاناً بقرب طلوع الشمس، يدل على ذلك حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن ربكم أنذركم ثلاثاً .... فذكر الدخان، والدابة، والدجال». (77)
وهذا الحديث واضح الدلالة في المقصود؛ لأن فيه التصريح بأن الدجال والدابة إنما هي نذر لما بين يديها من طلوع الشمس من مغربها، والذي يعني رفع التوبة، وعدم قبول الإيمان، فيكون خروجهما تحذيراً للناس وتنبيهاً لهم بأن عليهم التوبة قبل أن يأت يوم لا تنفع فيه، وذلك اليوم هو طلوع الشمس من مغربها.
وإنما لم يذكر في حديث أبي مالك طلوع الشمس من مغربها؛ لأن طلوعها لا يقع فيه إنذار، وهذا مما يؤكد أن الدجال والدابة إنما هي نذر، والله تعالى أعلم.
ويلاحظ في حديث أبي هريرة تعليق الشرط على ثلاثة أشياء، مع أن الجواب حاصل بأحدها، وهو طلوع الشمس من مغربها، ولهذا نظائر في الكتاب والسنة:
فمن الكتاب قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار: 1 - 5] فانظر كيف علق الشرط على أربعة أشياء، وهي: انفطار السماء، وانتثار الكواكب، وتفجير البحار، وبعثرة القبور، مع أن الجواب - وهو علم النفس بما قدمت وأخرت – لا يكون إلا بعد بعثرة القبور.
ونظير هذا المثال من السنة قوله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ (78)، وَمَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ (79)؛ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ». (80) فانظر كيف علق وجوب الغسل على شيئين، مع أنه لا يجب إلا بواحد منهما، وهو التقاء الختانين.
رابعاً: الأدلة على أن زمن عيسى - عليه السلام - يعقب الدجال:
تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بخروج الدجال، ونزول عيسى بن مريم عليه السلام (81)، وأغلب هذه الأحاديث فيها نص صريح بأن الدجال يقتله ابن مريم، وفي هذا دلالة واضحة بأن زمن عيسى يعقب الدجال، وفيما يلي ذكر بعض الأحاديث الدالة على قتل عيسى عليه السلام للدجال:
1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالْأَعْمَاقِ، أَوْ بِدَابِقٍ (82)، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنْ الْمَدِينَةِ مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ، فَإِذَا تَصَافُّوا قَالَتْ الرُّومُ: خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الَّذِينَ سَبَوْا مِنَّا نُقَاتِلْهُمْ. فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: لَا وَاللَّهِ، لَا نُخَلِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا، فَيُقَاتِلُونَهُمْ، فَيَنْهَزِمُ ثُلُثٌ لَا يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَبَدًا، وَيُقْتَلُ ثُلُثُهُمْ أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللَّهِ، وَيَفْتَتِحُ الثُّلُثُ لَا يُفْتَنُونَ أَبَدًا، فَيَفْتَتِحُونَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ (83)، فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ الْغَنَائِمَ قَدْ عَلَّقُوا سُيُوفَهُمْ بِالزَّيْتُونِ إِذْ صَاحَ فِيهِمْ الشَّيْطَانُ: إِنَّ الْمَسِيحَ قَدْ خَلَفَكُمْ فِي أَهْلِيكُمْ. فَيَخْرُجُونَ وَذَلِكَ
¥