«فأما من فسر الآية بأن المعنى أن كل كتابي لا يموت حتى يؤمن بعيسى أو بمحمد عليهما الصلاة والسلام؛ فهذا هو الواقع، وذلك أن كل أحد عند احتضاره ينجلي له ما كان جاهلاً به فيؤمن به، ولكن لا يكون ذلك إيماناً نافعاً له إذا كان قد شاهد الملك؛ كما قال تعالى: {وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآن} [النساء: 18]، وقال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِين * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا َ} [غافر: 84 – 85]، ومن تأمل هذا القول وأمعن النظر فيه اتضح له أنه هو الواقع، لكن لا يلزم منه أن يكون هو المراد من الآية، والله تعالى أعلم». (101)
الإيراد الثاني: على التسليم بأن الضمير عائد على عيسى عليه السلام فإن هذا الإيمان إيمان اضطراري، بمعنى أن أهل الكتاب يتحققون أن عيسى عبد الله ورسوله، ومثل هذا لا ينفع صاحبه، كحالة الغرغرة فإن الإيمان لا ينفع عندها. (102)
وأجيب: بأن الآية لم تفصل في هذا الإيمان من حيث القبول والرد، فبقيت على إطلاقها بأن الإيمان نافع في زمن عيسى عليه السلام، ولا يصح تقييدها إلا بدليل، وليس ثمة دليل.
الدليل الثاني:
ومما يؤكد القول بأن من أحدث إيماناً أو توبة في زمن عيسى عليه السلام قبل منه، حديث أبي هريرة، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عيسى بن مريم فقال: « ... وَإِنَّهُ نَازِلٌ ... فَيَدُقُّ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ». (103)
والشاهد من الحديث قوله: «وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ»، وهذا نص صريح بأن عيسى عليه السلام يدعو إلى الإسلام، ويلزم من دعوته أن الإيمان مقبول ممن آمن به واتبعه، وإلا فكيف يدعوهم إلى الإسلام وهو يعلم أن إسلامهم لن ينفعهم.
الإيرادات والاعتراضات على هذا الدليل:
فإن قيل: إن اللفظ الذي استدللتم به غير متفق عليه بين رواة الحديث، حيث روي بلفظ: «فَيُقَاتِلُ النَّاسَ عَلَى الْإِسْلَامِ» وبلفظ «وَيُعَطِّلُ الْمِلَلَ، حَتَّى يُهْلِكَ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلَ كُلَّهَا غَيْرَ الْإِسْلَامِ». (104) وهذه الروايات ليس فيها أنه يدعو للإسلام، وعليه فلا يستقيم الاستدلال.
والجواب:
أن لفظ «فَيُقَاتِلُ النَّاسَ عَلَى الْإِسْلَامِ» هو بمعنى لفظ «وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ» ولا فرق؛ لأن قتاله الناس على الإسلام إنما هو من أجل أن يسلموا، فمن أسلم كف عنه، ومن أبى قاتله، يدل على هذا المعنى حديث «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ .... » (105) ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث للقتال وحسب، وإنما بعث لدعوة الناس للإيمان، والقتال إنما هو لمن أعرض وأبى.
وكذا الرواية الثانية هي بمعنى هذه الرواية، والله تعالى أعلم.
الدليل الثالث: ما ورد من أحاديث أن المسلمين يقاتلون العدو في زمن الدجال، وزمن عيسى عليه السلام (106)، وقد جاء ما يفيد بأن التوبة لا تنقطع ما دام المسلمون يقاتلون العدو؛ فعن عبد الله بن وَقْدَانَ السَّعْدِيِّ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لاَ تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا قُوتِلَ الْكُفَّارُ» (107)، والهجرة لا تنقطع حتى تنقطع التوبة؛ لحديث «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا». (108)
وفي هذا كله دلالة واضحة على أن التوبة لا تزال مقبولة في زمن الدجال، وعيسى عليه السلام، إلى أن تطلع الشمس من مغربها.
الدليل الرابع:
قوله صلى الله عليه وسلم عن عيسى عليه السلام: «ويُهْلِكُ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلَ كُلَّهَا إِلَّا الْإِسْلَامَ» (109)
¥