تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

تآخينا وتآخى معنا السيد رشيد بحكم صلة الدرس العامة، وبقدرها، وكان

هذا لا يمنع بعضنا من توجيه النفس إلى السيد رشيد، توجيهًا خاصًّا كلما ظهر

السيد رشيد بموهبة ممتازة، قد يطول الحديث عنها؛ حتى هوجم الأستاذ الإمام في

آرائه الدينية والإصلاحية مهاجمة عنيفة، من كل القوى التي توافرت لها عوامل

الكيد والاستبداد، وإذا بالسيد رشيد يبرز في وجوده القوي لمناصرة خصوم الشيخ

بقلمه ولسانه، وينشر في مجلة المنار آراء أستاذه واتجاهاته. وما كان يتلقاه من

دروس شيخه، وكان يعلق عليهم بعبارات من عنده تدل على كمال الفهم واستقلال

الفكر، وكذلك كان أمر السيد رشيد في كل ما كان يكتب من مقالات وما يدون من

أبحاث؛ لأن أسلوب الأستاذ الإمام خلق ممتازًا، وسيبقي ممتازًا.

مات الأستاذ الإمام، وللسيد رشيد في نفوس إخوان الشيخ وأبنائه منزلة سامية،

ومع سمو هذه المنزلة لم يخطر ببال أحد أن السيد رشيدًا سيرث الشيخ فيما كان

يدعو إليه، وأنه سيرتفع صوته في بلاد الإسلام الغائبة، ولكن أبى الله سبحانه إلا

أن يسير السيد رشيد بخطى واسعة إلى الأمام، وقدر الله لصوته وهو على منبر

مناره أن يدوي في بلاد الإسلام والشرق، ولم يعتر جهاده في سبيل العلم والدين بعد

وفاة شيخه مع كثرة المخاطر شيء من الوهن والفتور.

ولا جرم أن هذه الميزة هبة إلهية، لا تمنح إلا للقليل من أفذاذ الرجال؛ لأن

حياة الأستاذ الإمام كانت قوية في مصر وفي غير مصر.

لهذا كان بقاء صاحب المنار ثلاثين عامًا بعد وفاة شيخه في وجوده القوي

يصد عادية جيوش الباطل التي لم تفتر ولم تنم، دليلاً ملموسًا على أنه من الأفذاذ

الذين بخل التاريخ بالكثير من أمثالهم، ولعل أكبر شاهد على ذلك أن مهمة السيد

رشيد العلمية لم يستطع إلى الآن أن يقوم بها فرد أو جماعة على كثرة العلماء

والكاتبين.

أيها السادة:

إن لصاحب المنار - رحمة الله عليه - من حياته العلمية آثارًا كثيرة وجوانب

قوية، لا أستطيع أن أوفيها حقها.

وقد أردت أن تكون كلمتي فيه الآن مقصورة على علمه بالقرآن وبأسرار

القرآن؛ لأن صلتي به لم تتأكد إلا من درس التفسير على الأستاذ الإمام، ولأن

آثاره في تفسير القرآن هي أقوى الآثار وأظهرها في الإقناع والإلزام، ولأن مفسر

القرآن إذا أخلص وصدق استحق الثناء الخالد؛ لأنه بصدقه وإخلاصه يشرف

عقله على الوجود، وعلى ما وراء الوجود، وقد تحقق ذلك للسيد رشيد، رحمة

الله عليه.

فالقرآن كتاب الوجود، وكتاب ما وراء الوجود، وكل من جهله واتجه إلى

غيره مهما كان قويًّا في نظر نفسه، وفي نظر أمثاله، فحياته غير صادقة،

وسعادته لا ضمان لها، ولا استقرار، بل المسلمون إذا أخلصوا للقرآن فهمًا وعملاً،

وعرضوا جواهره السماوية على عقول البشر، فقد ملكوا كل شيء؛ لأن العقول

من مادة السماء، ومادة السماء إذا تركزت في الأرض محال أن تطغى عليها

شهوات النفس الترابية.

والإنسان إذا أهمل فهم القرآن والتبصر فيه، وقد أحاط بما في الأرض علمًا؛

فليس من الله ولا من الوجود الحق في شيء، فحصر العقل في جزء صغير من

الوجود يستخدمه في حياته المادية لا يصور الحقيقة، ولا يحقق معنى الحياة

والسعادة؛ إذ الحياة الإنسانية مسبوقة بوجود لانهائي، وبعدها وجود لانهائي.

ومن حق العقل أن يفكر طويلاً في ذلك الوجود اللانهائي، هذا لا يتم إلا بفهم

(43/ 5)


القرآن، ومن أجل ذلك يقول الله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ
الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (الروم: 7) ويقول: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ
كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت: 64).
أيها السادة:
إن لأهل القرآن وأنصاره مرتبتين: المرتبة الأولى في فهم معانيه
الصحيحة وامتزاجها بالعقل والروح والنفس، فيشع منها النور والقوة بحيث يعملان
عملهما في الوجود بقدر الطاقة البشرية، وهذه هي مرتبة النبي صلى الله عليه
وسلم، ومرتبة الصديقين من أصحابه وأمته إلى يوم الدين.
المرتبة الثانية - هي فهم معانيه فهمًا صحيحًا، وامتزاجها بالعقل، وبالنفس
¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير