هنالك فرق بين الاحتجاج للقراءات والاحتجاج بالقراءات، فالأول فن من فنون القراءات ويقصد به (الكشف عن وجه القراءة في نحوها أو صرفها أو لغتها، وتسويغ الاختيار، وذلك بأساليب اللغة الأخرى من قرآن وشعر ولغات، ولا يراد به توثيق القراءة أو إثبات صحة قاعدة نحوية فيها) [15، ص206].
وذلك لأن التوثيق وإثبات صحة القواعد إنما هو مقرر في علم النحو ومن أصوله [35، ص6] فالغاية من الاحتجاج للقراءة إنما هو للكشف عن الوجوه النحوية، وتبيين مراتبها لا الاحتجاج بمعنى الإثبات كما خيل لبعضهم [15، ص206].
وقد ألف العلماء على مر العصور كتبًا في الاحتجاج للقراءات متواترها وشاذها، يوضحون عللها ويسفرون عنها، فكانت تعد بحق من الكتب القيمة في تراثنا، لبروز مكانتها التي لا تجحد من الناحيتين اللغوية والنحوية.
ومن الكتب التي صنفت في التعليل للقراءات الشاذة كتاب المحتسب لابن جني الذي أبان في مقدمته أهمية القراءات الشاذة بقوله: (إلا أنه مع خروجه عنها (أي خروج الشاذ عن المتواتر) نازع بالثقة إلى قرائه محفوف بالروايات عن أمامه وورائه، ولعله أو كثيرًا منه مساوٍ في الفصاحة للمجتمع عليه. . . إلى أن قال لكن غرضنا منه أن نري وجه قوة ما يسمى الآن شاذًا وأنه ضارب في صحة الرواية بجرانه آخذ من سمت العربية مهلة ميدانه لئلا يرى مري [6] أن العدول عنه إنما هو غض منه أو تهمة له) [26، ج1 ص32 - 33].
ومن الكتب أيضًا كتاب تعليل القراءات الشاذة لأبي البقاء العكبري وهو أوسع في ذكر الشواذ من المحتسب، وابن خالويه، وابن حيان في تفسيره في البحر المحيط.
ثم أن توجيه القراءات الشاذة أقوى في الصناعة من توجيه المشهورة لما يتطلب من معرفة دقيقة بالعربية واستعمالاتها وأساليبها [21، ص467].
وقد انبرى لهذه المهمة أبو الفتح ابن جني فاستطاع (أن يؤلف بين الأساليب اللغوية جميعًا وبين وجوه الشواذ، كما استطاع أن يمزج الشواذ بأقيسته مزجًا محببًا حتى بدت فيه مواد المحتسب وحدة لغوية منسجمة يقوي بعضها بعضًا) [15، ص208].
ومن فوائد هذا الاحتجاج للقراءات الوصول إلى كشف القراءة لا إلى توثيقها أو تقويتها فالعودة إلى النحو وغيره إذًا ما هي إلا لبيان القراءة وتوضيحها ولذلك يقول ثعلب: (إذا اختلف الإعرابان في القراءات لم أفضل إعرابًا على إعراب فإذا أخرجت إلى كلام الناس فضلت الأقوى) [9، ج1 ص83].
ومن أمثلة الاحتجاج للقراءات الشاذة ما استشهد به ابن جني لقراءة قتادة: (بل مكر الليل والنهار) [سبأ: 33] برفع راء مكر منونة ونصب لام الليل، وبقوله تعالى: (أو إطعام في يوم ذي مسغبةٍ يتيمًا ذا مقربة) [البلد: 14 - 15] حيث عمل المصدر المنون فيهما عمل فعله فنصب مفعولاً فيه [26، ج2، ص193 - 194].
ومن خلال الاحتجاج لهذه الشواذ توصل ابن جني إلى الأمور الآتية:
1 - يتوصل أحيانًا إلى تفضيل الشاذة على المشهورة.
2 - كما أن الشاذة جعلها دليلاً على المشهورة.
3 - والشاذ دليل على مذهب نحوي مختلف فيه.
4 - وبلغ به إلى أن يوجه عددًا من القراءات الشاذة التي أعيت النحاة الذين سبقوه [15، ص236 - 239].
الاحتجاج بالقراءات الشاذة
القراءة الشاذة إذا صح سندها فقد ذهب العلماء في الاحتجاج بها مذاهب شتى بين مؤيد ومعارض، ويمكن الوقوف على آراء المفسرين والفقهاء واللغويين حول احتجاجهم بها وموقفهم منها على النحو التالي:
موقف المفسرين: من القراءة الشاذة:
اتفق المفسرون على عدم اعتبار القراءة الشاذة قرآنًا، ولكنهم اختلفوا في الاحتجاج بها في تفسير الآية وبيان معناها على رأيين مختلفين معارض ومؤيد فالذين عارضوا الاحتجاج بالقراءة الشاذة في تفسير بعض الآيات وتجلية معانيها إنما ذهبوا هذا المذهب لأنهم يرون (أن الراوي لم يروه في معرض الخبر بل في معرض القرآن ولم يثبت فلا يثبت) [29، ج1 ص47] قالوا وإذا (بطل كونه قرآنًا بطل من أصله فلا يحتج به على شيء) [36، ج1 ص248 - 249]، وتزعم هذا الرأي المعارض للاحتجاج بالشاذ الإمام الرازي وكذا ابن العربي المالكي.
¥