تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

سمعت أحد العلماء الأجلاء () يؤكد مراراً على أن العلمانية هي الغنوصية فتأملت في هذا الحد فوجدته يغطي مساحة من مساحات العلمانية، وحقلاً من حقولها وهو: التأويل، حيث بالرغم من أن الغنوصية قائمة على العرفان ()، والعلمانية - بحسب أصحابها - قائمة على العقل، إلا أنهما يلتقيان في النتائج المترتبة عن " التأويل المنفلت "، حيث نصل عن طريق التأويل العلماني والغنوصي المنفلتين إلى خلاصات ما أنزل الله بها من سلطان، وفهوم تتجافى إلى أبعد الحدود مع النص، فإن النص إذا كان في السماء فإن التأويل العلماني أو الغنوصي في أسفل الأرضين، وإذا كان النص يتجه غرباً فإن تأويلهما يتجه شرقاً. وهكذا رأيت أن الجامع بين العلمانية والغنوصية هو " التأويل المنفلت ".

وسمعته أيضاً يعرف العلمانية بأنها " تنحية الأسئلة الكبرى " ولكن الذي بدا لي أن العلمانية بعد أن فشلت في الإجابة عن هذه الأسئلة اقترحت تنحيتها لأنها بدأت تُعكِّر عليها سيرورة العلمنة. وهذه التنحية كارثة من كوارث العلمانية على الإنسانية لأنها الأسئلة الجوهرية للإنسان، بل هي محور إنسانيته، والمعنى الصميم لهذه الإنسانية، وتنحيتها حَطّم إنسانية الإنسان، وجعله مادة بلا هدف ولا غاية، يتقلب في ظلام الشك والحيرة، وبدد له كل أمل في السعادة.

ومن هنا رأيت أن تنحية الأسئلة الكبرى ليست تعريفاً للعلمانية وإنما نهاية من نهايات العلمانية، بل يمكن اعتبار هذه التنحية: إشهاراً للإفلاس، وإعلاناً للخيبة.

استبطنت في مرحلة من مراحل البحث التعريف القائل بأن العلمانية "" رؤية مادية بحتة للوجود بما فيه "" ولكن تذكرت أن باركلي لم يكن مادياً فقد أنكر المادة واعتبرها موجودة لأنها مُدرَكة فقط، وأن هيوم أنكر الروح والمادة ولم يعترف بأية حقائق ضرورية، وكذلك فإن جان جاك روسو كان ممثلاً للفلسفة المثالية، ومع ذلك كان لهؤلاء جميعاً إسهاماً بارزاً في علمنة الفكر الأوربي.

هذا بالإضافة إلى - ما أشرنا إليه سابقاً - من أن العلمانية لم تتمكن من الاستمرار في المادية لأن العقل يؤكد وجود حقائق كونية ليست مادية يقوم عليها الوجود والعلم.

فالمادية سمة أساسية من سمات العلمانية ولكنها لا تُعبّر عنها تماماً وإن كان بروزها يكاد يجعل العلمانية تُختَزَل غالباً في هذه السمة.

2 – أبرز الخصائص:

لقد استقر رأيي - ردحاً من الزمن - على أن العلمانية هي: "" أنسنة الإلهي، وتأليه الإنساني "" ويتميز هذا الحد بأنه يجمع خصائص كثيرة للعلمانية في شطريه:

فالشطر الأول " أنسنة الإلهي " يحتوي على مقولة العلمانية في رفض المصدر الإلهي للأديان أو الوحي، واعتبارها ظواهر اجتماعية وإنسانية تاريخية برزت ضمن ظروف ومعطيات معينة كما أراد فرويد وغيره. ويحتوي هذا الشطر أيضاً: على إلغاء أو تمييع كل المقدَّسات والمعجزات، وإعادة تفسيرها تفسيراً إنسانياً اجتماعياً أو اقتصاديا أو مادياً، أو نفسانياً واعتبارها مجرد خرافات وأساطير عفا عليها الزمن.

ويحتوي هذا الشطر أيضاً: على أنسنة الطبيعة والكون بمعنى تجريده من أية دلالات روحية أو كونية أو رمزية، واعتبارها مواد للإنسان عليه أن يستثمرها في منفعته وأنانيته بشكل مطلق وإمبريالي دون أي اعتبار آخر، مع رفض الدلالات الغيبية، والإشارات الربانية التي تؤكد عليها الأديان جميعاً كمعالم للهداية، باعتبار الطبيعة - في رؤيتها - كتاباً كونياً منظوراً إلى جانب الوحي المكتوب.

ويحتوي هذا الشطر أيضاً: على الجهود التي تبذلها العلمانية لاستثمار الإلهي وتحويله إلى فكرانية () بمعنى: "" تحويل الوحي إلى إيديولوجية "" (). "" تحويل الوحي ذاته إلى علم إنساني "" () وذلك لتحقيق أغراض الإنسان وأطماعه، وقد تجلى ذلك واضحاً في الفلسفة الفيورباخية، وتبنى ذلك حسن حنفي من العلمانيين العرب – كما سنرى – ومعنى ذلك "" إلغاء الغيب كمصدر للمعرفة، وقصرها على عالم الشهادة "" () ويتم ذلك بالعقل والتجريب بعيداً عن الوحي.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير