تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وعلى مستوى العلاقة بين العلمانية العربية والنص القرآني فإنه يتجلى أيضاً دور الشطر الأول من التعريف حيث نجد نزعة الأنسنة سائدة لدى هؤلاء فكتب أركون كتابه " نزعة الأنسنة " وحاول نصر حامد أبو زيد وغيره استعادة القضية الكلامية القديمة التي ثار حولها جدل طويل، وهي مسألة خلق القرآن في شكلها الاعتزالي، وذلك من أجل تكريس إنسانية الوحي ومنتوجيته البشرية، وسنفصل ذلك فيما بعد.

وأما الشطر الثاني من التعريف " تأليه الإنساني " فيتولى تغطية جوانب كثيرة أيضاً من خصائص العلمانية أهمها: النزعة الغرورية التي كرستها فلسفة نيتشة وداروين عبر " الإنسان الأعلى " و" البقاء للأقوى " والتي مورست عملياً من خلال حكام النازية والفاشية كما أشرنا سابقاً.

ويتضمن هذا الشطر أيضاً: التركيز العلماني الدائم على مركزية الإنسان، واستقلالية العقل، وهذه الأخيرة تشكل بُعداً أساسياً في العلمنة حتى عُرِّفت بأنها لا سلطان على العقل إلا للعقل في تفسير الوجود. هذا الجزء يتكفل بالإشارة إلى هذا البعد، حيث إن تأليه الإنسان يعني أن التفكير الإنساني مستقل عن الوحي، بل يرقى إلى مرتبة الوحي، ويحظى بنصيب من الألوهية. لقد بلغ الأمر بالفرنسيين بعد الثورة أن نصبوا تمثالاً وعبدوه سموه " إلاهة العقل " ().

ويتضمن هذا الشطر أيضا: الإشارة إلى تأليه القيم الجديدة للعلمانية المتمثلة في حقوق الإنسان، وترسيخ الفردية المطلقة، والديمقراطية، وحرية المرأة المطلقة، ونسبية الأخلاق، والعِلمانية – بالكسر -، وكل ذلك ما هو إلا إحلال لمنظومة جديدة مؤلَّهة من القيم الإنسانية، وإضفاء حالة من القداسة عليها، بدلاً من الدستور الإلهي القائم على الوحي.

ويتضمن هذا الشطر أيضا: الإشارة إلى الجانب العبثي في العلمانية وهو بعد جوهري فيها، ذلك لأن تأليه الإنساني يعني أن الإنسان الجسد هو المُؤلَّه، لأن العلمانية لا تعترف إلا بالجسد، وحاجات هذا الجسد الجنسانية والغرائزية تنال حظاً وافراً من الإجلال والقداسة - كما رأينا في الفصل الأول -إن تأليه الإنساني يعني تقديس المُدَنَّس والارتفاع به إلى مستوى الألوهية.

أما البعد المادي في العلمانية فإن شطري التعريف يسهمان في تغطيته، إذ إن أنسنة الإلهي تعني تحويل ما ليس بمادة إلى مادة، أو بعبارة أخرى تدنيس المقدس والتعامل معه على هذا الأساس الدَّنِس. ثم يأتي الشطر الثاني ليضفي على المادة قداسة جديدة " تقديس المدنس " وتصبح المادة بهذا الشكل حالَّة محل الألوهية، ويغدو كل ما سواها ضربٌ من الأساطير والأوهام. وهو ما سعت الفيورباخية والماركسية إلى تكريسه.

3 – العلمانية هي الدنيوية:

هذا التعريف الذي اقترحته وتحدثت عنه للتو، وقلت إن رأيي استقر عليه ردحاً من الزمن لم يدم هذا له هذا الاستقرار، مع أن خصائصه - كما أشرت - موزعة في التعريفات التي عرضناها سابقاً لكثير من الباحثين.

والسؤال هنا: " هل يمكن اختزال هذا التعريف أو التعريفات المطروحة سابقاً بكلمة واحدة؟

لقد سبق أن قلنا إن سيد محمد نقيب العطاس رأى أن اقرب كلمة تعبر عن العلمانية في المفهوم القرآني هي ما يعبر عنه القرآن بلفظ " الحياة الدنيا "، وإن لم يقترح ذلك كتعريف للعلمانية، ورأينا كذلك أن العلمانية تُرجمت في مصادرها الأجنبية على أنها " العالمانية " أو " الدنيوية " أو " الدهرية " وكتب جمال الدين الأفغاني كتابه " الرد على الدهريين " يرد فيه على العلمانيين المعاصرين له.

وما أريد أن أقوله هنا: هو أن " الدنيوية " ليست مجرد ترجمة لغوية للعلمانية، وأعني أن العلمانية يمكن أن تُعرَّف تعريفاً جامعاً مانعاً - فيما أرى - بكلمة واحدة هي: " الدنيوية ".

إن هذا التعريف - كما يبدو لي - لا يكاد يغادر صغيرة ولا كبيرة من مقولات العلمانية وخصائصها إلا ويطويها في داخله، وإن نظرة سريعة في تاريخ العلمانية وأسسها وجذورها، وأبعادها وتجلياتها سوف تبين أن الدنيوية هي الهم الأول، والهاجس الأساسي، بل الوحيد الذي تدور عليه العلمانية.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير