ترى هذه المرأة أنه من المبكر جدًا معرفة الفكرة التي سوف تكشفها الدراسة التي يجريها فريقها حول تلك المخطوطات والنصوص القديمة، حيث إن المشروع انطلق مجددًا خلال العام المنصرم في أكاديمية برلين براندنبرغ للعلوم الإنسانية، ويحظى بتمويل رسمي من الدولة لمدة 18 عامًا قد تستمر لأطولَ من ذلك، بما أن أقرب تلك المخطوطات عهدًا، يعود إلى نحو 700 عام، ويتعين التدقيق فيها بشكل كبير، خصوصًا وأن أكثرها صعب الحل، مما يعني أنها قد تؤدي إلى استنتاج قراءات متنوعة.
ثم إن ما يعتبر لعنة أو لغزًا، ظل يلازم أرشيف ميونيخ هذا منذ البداية، فالعالم الذي اكتشفه مات في حادث تسلق في العام 1933 وورثه شخص آخر توفي في حادث طائرة في 1941 بخلاف السيد سبيتالر، الذي كان أحسن حالاً بعد أن تولى حفظه وإخفاءه إلى أن توفي وقد بلغ من العمر 93 عامًا.
ظلت لفات الفيلم تلك في علب سجائر وصوان بلاستيكية، إلى جانب علبة كعك قديمة، ولكنه حاليًا محفوظ في مكان آمن ببرلين، حيث سوف تشكّل صور هذه المخطوطات قاعدة بيانات تعتقد السيدة نوويرث والفريق العامل معها أنها ستساعد على كشف جوانبَ كثيرةٍ من تاريخ النصوص الإسلامية، والنتيجة كما يقول السيد مايكل ماركس -مدير المشروع البحثي- ستكون الخروج بأول 'دراسة نقدية' للنص القرآني، واكتشاف التداخلات بينه وبين النصوص الأخرى في التوراة وغيرها من الكتب المقدسة في الأدبين المسيحي واليهودي.
هنالك أيضًا مجموعة من التونسيين شرعت في مَهمة موازية، لكنهم لا يرغبون في الكشف عن تفاصيلها؛ تجنبًا لغضب المسلمين، وفقًا لما قاله لنا منصف بن عبد الجليل -الباحث المشارك فيها- الذي يرى أن "الصمت أفضل"، خاصة وأن السلطات الأفغانية خلال العام الماضي، اعتقلت مسئولاً هناك بتهمة المساهمة في ترجمة عامية للقرآن، وأدين بالكفر، في حين أن ناشرها قد اختفى حاليًا.
القرآن فريد!
إلى ذلك، فإن كثيرًا من النصارى أيضًا لا يحبذون فكرة قيام العلمانيين بفحص النصوص المقدسة والتشكيك فيها عبر رفض بعض المقاطع منها، ولكن النصارى في الواقع، يتقبلون فكرة أن الكتاب المقدس قد كتب خلال فترات متباعدة من قِبل أناس مختلفين، وأن الأمر قد استغرق قرونًا طويلة من التنقيب، حتى ثُبّت على شكله الحالي.
أما المسلمون، فهم على العكس من ذلك، يعتبرون القرآن كلام الله، ويقول الباحث المغربي عبده الفيلالي الأنصاري: إن التشكيك في ذلك يعني "كما لو أنك تقول للنصراني مثلاً: إن السيد المسيح كان شاذًا جنسيًا".
بالتالي، فإن المناهج الحديثة في التحليل النصي التي طُورت في الغرب، ينظر إليها العالم الإسلامي على أساس أنه غير معنيٍّ بها في أحسن الأحوال، ففي العام 2003، كتب أستاذ جامعي من المملكة العربية السعودية يقول: "لا شيء غير كتابات المسلمين تستحق أن تلقى اهتمامنا" ليضيف: "لا بد أن تظل وجهة النظر الإسلامية ثابتة فيما يتعلق بالكتاب المقدس، فهو كلام الله غير القابل للتقليد، وغير الممكن تعديله؛ لأنه نقي جدًا وثابت".
لقد حاولت "خبيرة" القرآن ببرلين، السيدة نوويرث، إلى جانب مدير أبحاثها السيد ماركس، توضيح المشروع إلى العالم الإسلامي عبر سفرها إلى كل من إيران وتركيا وسورية والمغرب، وحينما كشفت إحدى الصحف الألمانية عن المشروع خلال الخريف الماضي على صدر صفحتها الأولى وتنبأت أن هذا سوف "يُسقط الأنظمة والممالك"، بادر السيد ماركس إلى دعوة شبكة تلفزيون الجزيرة إلى جانب عدد آخر من وسائل الإعلام؛ لكي ينكر أمامها وجود أية نية للتهجم على العقائد الإسلامية.
الحكاية من البداية
لقد بدأ الأوروبيون دراسة القرآن خلال القرون الوسطى، وكان الهدف الأبرز وقتذاك هو محاولة الفضح، وبحلول القرن التاسع عشر، بدأت الأبحاث تأخذ طابعًا علميًا عبر دراسات أكثر جدية للنصوص القديمة، وفي هذا المجال كان الألمان سبّاقين.
كان التركيز الأصلي على التوراة. ولقد حاول القساوسة والحاخامات منعَ ذلك، إلا أن العلماء ضغطوا وأصروا بشكل تحدَّوْا من خلاله النظرة التقليدية للعهديْن: القديم والجديد، وهذا ما أدى إلى تقويض الإيمان بحرْفية الكتاب المقدس، وساهم اليوم في ولادة العلمانية بشكل كبير في أوروبا، ولقد أدار هؤلاء -مع مرور الوقت- اهتماماتهم صوب القرآن.
¥