في العام 1857، عرضت أكاديمية باريس جائزة لأحسن ‘تأريخ نقدي’ للقرآن، ولقد فاز بها الألماني ثيودور نودلكه، وهذه الخُطوة أصبحت فيما بعدُ، حجرَ الزاوية في الأبحاث الغربية المستقبلية، حتى أن نوويرث تصف هذا الأخير بقولها: "إنه حجر كنيستنا".
بدأ أرشيف ميونيخ على يد أحد مقربي نودلكه، الذي كان اسمه غوتهلف بيرغستراسر، وبما أن ألمانيا كانت قد انزلقت بشكل مبكر نحو الحكم الفاشي في بدايات القرن الماضي، فقد قام هذا الأخير بتجميع النسخ القديمة من القرآن من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث يقول: إنه صور تلك النسخ بواسطة آلة تصوير من نوع Leica.
في 1933 وبعد شهور قليلة من تولِّي هتلر منصب مستشارية ألمانيا، لقي هذا الرجل حتفه في حادث تسلق جبلي بجبال الألب في بافاريا، ولأن جسمه لم يخضع لأية عملية تشريح، فلقد انتشرت إشاعات كثيرة حول موته، تراوحت بين الانتحار والغدر.
بعد ذلك، تولى العمل مستعرب ألماني آخر، هو أوتو بريتزل، الذي استعمل أيضًا آلة تصوير من ذات النوع، ففي عام 1934 وخلال زيارة له إلى المغرب، تمكن من زيارة مكتبة ملكية هناك، كانت تحوي نسخة قديمة من القرآن، واستطاع التدقيق فيها بعد أن كان محل ارتياب كبير، من قِبل رجال الدين المحليين، كما روى في مذكراته التي خطها حول تلك الرحلة.
ثم إن النازيين بدؤوا باستعمال المستعربين مبكرًا في الحرب، حينما بدأت القوات الألمانية بالتحرك صوب مناطقَ يغلب عليها المسلمون في شمال أفريقيا أولاً، ثم في الاتحاد السوفييتي بعد ذلك، حيث كان هؤلاء المتخصصون يُستعملون لنشر البروباغندا ويساعدون على بناء المدارس للمسلمين الذين جُندوا في القوات المسلحة الألمانية.
كان السيد بريتزل جامع المخطوطات، يعمل على ما يبدو، لحساب المخابرات العسكرية، حيث إنه كُلّف باستجواب الجنود الناطقين بالعربية الذين أُسروا بُعيْد احتلال فرنسا، قبل أن يلقى حتفه هو الآخر في حادث تحطم طائرة، حينما كان متوجهًا إلى العراق بقصد إثارة انتفاضة عربية هناك ضد القوات البريطانية.
تحولت المسئولية عن الأرشيف بعد هذا إلى إشراف السيد سبيتالر، الذي ساهم في جمع بعض الصور الأخرى، حيث كان يعمل خلال فترة الحرب في مكتب القيادة الألمانية، ولاحقًا كلُغوي مستعرب في النمسا، ولم يكن في الواقع يمتلك رتبة عسكرية رفيعة، طبقًا لسجلات تلك الحقبة.
بانتهاء الحرب، عاد الرجل إلى الحياة الأكاديمية، ولكنه بدلاً من إحياء مشروع القرآن، بدأ في العمل على مشروع مرهق وأقل حساسية، هو قاموس للغة العربية الكلاسيكية، وبعد نصف قرن من العمل، خرج القاموس مرتبًا فقط بالكلمات التي تبدأ بحرفين من الأبجدية العربية المكونة من ثمانية وعشرين حرفًا.
كان السيد سبيتالر نادر النشر، ينشر ولكنه كان يحظى باحترام واسع بالنظر إلى إتقانه الكبير للنصوص العربية، فيما يرى عدد قليل من الباحثين عكس ذلك، حيث يعتبرونه قليل الإنتاج وشديد الحذر، إلى جانب أنه كان معاديًا لوجهات النظر غير التقليدية.
يقول الباحث غانتر لولنغ -الذي كان مطرودًا من الجامعة في السبعينيات الماضية؛ بسبب بعض النظريات البدعية التي قدمها حول أصول القرآن-: "إن الفترة التي تلت 1945 بكاملها كانت مسمومة من قِبل النازيين"، ولقد جادل هذا الأخير في أطروحته للدكتوراه بأن القرآن مستخلص من الترانيم "المسيحية"، وهذا ما ولّد اعتراضًا من قِبل السيد سبيتالر، الذي تمكن من فصله من الجامعة، ليشن عليه لولنغ معركة قضائية استمرت ست سنوات كاملة، دون أن تحقق له أية نتيجة، لذلك فهو يقول عن سبيتالر: "لقد دمّر حياتي".
لأجل هذا، فإنه كان يكتب الكتب والمقالات في منزله بتمويل من زوجته التي تعمل في ميدان الصيدلة، وحينما طلبت منه إحدى الصحف الفرنسية أن يعدّ لها ورقة عن المستعربين الألمان، سافر إلى برلين وبحث في سجلات الحرب، إلا أنه يقول: إن العلماء البارزين هناك في فترة ما بعد الحرب "كانوا كلُّهم مرتبطين بالنازية"، ويضيف في هذا الصدد مستشهدًا بالباحث بيرثولد سبولر الذي يقول عنه: إنه "كان مترجمًا للغة اليديشية والعبرية لحساب جهاز الغستابو" (عرف السيد سبولر بعض المتاعب فيما بعد خلال الستينيات الماضية، حينما صرخ الطلاب أثناء مظاهرة احتجاج أنه كان ‘يعمل في معسكرات الاعتقال’)، أما السيد رودي باريت
¥